العدد 4179 - الجمعة 14 فبراير 2014م الموافق 14 ربيع الثاني 1435هـ

وصف: تحت الأرض... نبش السيرة (1)

عمال الحفر البحرينيون  في قلعة البحرين، العام 1962م.  من اليمين وقوفاً: جمعة بن حسن، أحمد بن حسن، راشد بن أحمد بن سلمان، إبراهيم بن الحاج علي منصور، ناصر بن علي، وعيسى بن أحمد.من اليمين جلوساً: الحاج حسن بن حبيب، جاسم بن سلمان، علي بن حسن، جاسم بن حبيب، سيدعيسى بن سيد صالح، علي بن مهدي.
عمال الحفر البحرينيون في قلعة البحرين، العام 1962م. من اليمين وقوفاً: جمعة بن حسن، أحمد بن حسن، راشد بن أحمد بن سلمان، إبراهيم بن الحاج علي منصور، ناصر بن علي، وعيسى بن أحمد.من اليمين جلوساً: الحاج حسن بن حبيب، جاسم بن سلمان، علي بن حسن، جاسم بن حبيب، سيدعيسى بن سيد صالح، علي بن مهدي.

الوصف أوّل السيرة، وربّما هو الحركة الأولى في الذاكرة العامة المنسيّة إهمالاً أو تعمداً خشيةً على الذاكرة المفروضة. الوصف دَرج يصعد بالسيرة ببطء نحو حصول الشخص معنىً لوجوده. وكلّما تعدد الوصف وتنوّع انفتحت السيرة أكثر على حياة صاحبها وتقلباتها في أزمنتها وأمكنتها التي حلّت بها. خففْ من حركة الوصف فالسيرة مرّت سريعاً مثل ومضة كاميرا أو رجفة عاشقة. اجمعْ الوصف إلى الوصف فالذاكرة ليست واحدة وأهميتها في حيويتها غير المحصورة فيما مضى. الذاكرة ليس لها خاتمة.

في مكتبة بيت الآثاري بيتر غلوب (P.V. Glob) القديم ليلاً، وصفت «فيبك» زوجة الآثاري جيفري بيبي (Geoffrey Bibby) زيارتها للبحرين بالسحر. المناطق البرية مغطاة بملايين كسر الفخار. يتنزهان جوار النخيل عند الغروب فيلتقطان قطع أساور زجاجية وكسراً من الخزف الصيني، وربما نقوداً نحاسية. لم تُكمل فيبك وصفها حتى ضرب غلوب الطاولة بحماسة، قال: فلنرسلْ بعثةً إلى البحرين.

هذا ما فعله وصف فيبك، يضاف إليه وصف الآثاري أرنست ماكاي (Ernest Mackay) حول مقابر عالي في العشرينات (1923-1926)، وهو صاحب فكرة: أن البحرين قبل الإسلام أرض لدفن الناس فقط. أرض للموت. الجزيرة المقبرة. وقد سبقهم بالوصف العقيد البريطاني بريدو (Prideaux) منقباً في مقابر عالي العام 1906م. رأى أنّها مقابر فينيقية. وقبلهم جميعاً الكابتن دوراند (Durand) الذي وصف المدافن في تقرير صغير العام 1879م بأنّها ليست معدّة للميتين. وقد عمل مع دوراند عمّال محليون كثيرون لا يوجد تسجيل بأسمائهم. لا شيء عنهم بالمرّة غير إشارة لبيبي في كتابه (Looking for Dulmon/1961) هي، «وأخذ في التنقيب بمساعدة قوة عمل كبيرة من العرب المحليين».

وعندما وصلت البعثة الدنماركية للتنقيب عن الآثار في البحرين العام 1954م ظهرت مهنة جديدة للناس في القرى المجاورة لمواقع التنقيب: كرانة، باربار، كرباباد، جنوسان، أبوصيبع، الحجر، سار، القدم، جد الحاج، المقشع، حلة العبدالصالح، وبني جمرة، غير مهنتي البحر والزراعة الرائجتين في هذه القرى. وعليه ظهرت مصطلحات جديدة، ووصف جديد لمهنة جديدة، وتقنيات عمل وأداء، وحفر الأرض من أجل الكشف لا من أجل الزراعة، ونظام للوقت، وعلاقات مع الأجنبي وصور له تعتمد أكثرها على الوصف. وصورة أخرى لهؤلاء العمّال لدى فريق البعثة: كيف يرون هؤلاء الناس؟ ما هي كلمات الوصف الأولى؟ كيف يذكرونهم؟ كيف يكتبونهم؟

لا نعرف كثيراً عن أثر ذلك في الحياة الاجتماعية والاقتصادية وفي يوميات تلك القوة العاملة من أهل القرى في هذا الحقل المهني الجديد. وخصوصاً أنّ هؤلاء العاملين اختلطوا على مدى سنوات بآثاريين ومنقبين ومصورين ورسامين وفنانين وموسيقيين وعلماء نبات ومؤلفين، رجال ونساء دنماركيات وصفهن المرحوم إبراهيم دلال مبتسماً بالنساء «النظيفات». كان دلال من قرية كرانة، ومهمته تزويد سكان البعثة بالماء من البساتين القريبة. وكان مفهوم «البعثة» لذا الدنمركيين هذا الخليط من المختصين، فلا شيء منها منفصل، ولا شيء منها إلا ويحتاج الآخر.

ولا نعرف أيضاً إلا القليل عن: كيف يتمّ التواصل بين هؤلاء العمال وأعضاء البعثة. فبينما يشير مرمّم الآثار الحاج منصور بن ناصر إلى يسر التواصل، وأنّ اللغة خليط بين كلمات محلية وأخرى إنجليزية تسندهما الإشارة، وأنّهم تأثروا بأعضاء البعثة، وتعلموا عادات مهنية، نجد الأنثربولوجية هني هانس (Henny Hansen) تشير في كتابها «بحث في قرية شيعية في البحرين» إلى شيء من الصعوبات في أساليب الاتصال في قرية مثل «سار» بين «المجتمع الاستاتيكي المغلق فيها والمعتمد على ذاته، وبين العالم الغربي الفاعل». سنجد نقيض ذلك تماماً لدى بيبي في كتابه «البحث عن دلمون»، الذي صدر في العام 1961م. عاشت هانسن في البحرين (79) يوماً. قضت منها (47) يوماً في قرية سار من عام 1960م. ولعلّ هذا سبب وجود تعميمات صارخة في كتابها. وهذا ما حدث لخليفة النبهاني قبلها. مكث في البحرين أقلّ من مدة هانسن وخرج في العام 1913م بكتاب «التحفة النبهانية»صارخ في التعصب والأغلاط.

لقد وثّقت البعثة أكثر وجوه العاملين فوتوغرافياً وقليلاً من الأسماء التي اقترنت بها صفات استثنائية كالشجاعة وإظهار إمكانيات غير عادية، أو حرفة لا يمكن الاستغناء عنها. فتجاوزت تلك الأسماء وصفاتها الرصد في التقارير الرسمية إلى الكتب الثقافية. فمَنْ هو «جعفر» الذي أطلق عليه أعضاء البعثة «المهندس»؟ ومَنْ هم العشرة الجمريون الذين كانوا معه؟ ومنْ هو «خليل بن إبراهيم» المغامر المجنون؟ هل له علاقة برسام البعثة «كارل بوفين»، الذي وصفه العمّال بالمجنون؟ مَنْ هو رجل الدين والخطيب الذي كان يعمل في بعثة التنقيب؟ كيف سيعمل في مكان مختلط؟ منْ هم العمال الذين رفضوا العمل مع بيتر غلوب وقالوا له: بأنهم ليسوا «كولية». منْ هم هؤلاء الذين همّشهم التدوين: إبراهيم دلال، جمعة بن حسن، راشد بن أحمد، جاسم بن سلمان، عيسى السيد صالح، علي بن مهدي، ميرزا بن مبارك، سيدعلوي سيد شبر، حسن مكي، ومنصور بن ناصر، وآخرون نزلوا ينقبون تحت الأرض عن آثارهم فاختفت سيرهم فوقها؟

العدد 4179 - الجمعة 14 فبراير 2014م الموافق 14 ربيع الثاني 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً