دَشَّنَ الطبيب النفسي السوري تيسير حَسُّون عيادة نفسية «مُتنقلة». أدرَك الرجل ظروفَ شعبه القاسية منذ أزيد من ثلاثة أعوام من موتٍ وتفجير وتهجير وقصف صاروخي متبادل، والتي خَلَّفت (ولا تزال) أمراضاً هائلة، وعاهات نشطة، ليست عضوية فقط، بل نفسية أيضاً. وعند الحروب، تكثر عادة أمراض النفس، نتيجة المشاهد الدموية والمرعبة. ومن بين أكثر الأمراض انتشاراً في تلك الأجواء هي مرض «الاكتئاب» الذي قد يُفضي إلى الانتحار في أسوأ حالاته.
أدرَكَ هذا الطبيب، أن الطرق في سورية لم تعد آمنة، والمواصلات غير متوفرة كالسابق، فضلاً عن طبيعة الأمراض النفسية، التي يُفضِّل مرضاها السِّترَ ما أمكن. لذا، فقد حوَّل ذلك الطبيب لقاءاته بمرضاه من عيادته بأحد المباني إلى الفيس بوك، حيث العيادة التي لا تظهر فيها الهويات الشخصية بالضرورة، فيسهل على المريض التحدث مع طبيبه بغير قيود أو تمنُّع، فضلاً عن سرعة الاتصال وسهولته، ومنسوب الأمان فيه.
هذا الطبيب ناقش العديد من الملفات التي يعتقد البعض أنها من هوامش الحياة، مادام ذلك البعض غير مُبتَلٍ بها، كالاكتئاب عند النساء، والفوارق البيولوجية المرتبطة به، والأسباب النفسية له، والأسباب الاجتماعية الثقافية له من مواجهة مجتمع ذكوري وسوء المعاملة، إلى تحمّل أعباء المنزل، وأزمة منتصف العمر، والمسائل العاطفية.
إضافةً إلى ذلك العمل النوعي، قال حَسُّون كلاماً يجدر بنا أن نسمعه... بأن «النِّت صار حاجة أساسية للسوري. بات موئلاً للعلاقات المفقودة في الواقع، بات أكثر حميمية من الواقع في ظلّ التشظِّي الاجتماعي في سورية الآن. اليوم أكتَشِفُ أنه ليس واقعاً افتراضياً، بل هو واقع واقعي. أليس من الضروري إعادة تعريف الواقع من جديد؟ لحظة عودة النِّت كانت أعظم من عودة كهرباء مقطوعة! والسبب ببساطة أن النِّت لم يعد خيوطاً وكابلات ضوئية، بل خيوط وكابلات اجتماعية وعاطفية وثقافية». انتهى كلامه.
الحقيقة أن ما قاله الطبيب حَسُّون يجعلنا نتوقف عنده في جانبين:
الأول: وهو المتعلق بقدرة البشر على ابتكار أفكار «خَدَمِيَّة» كلٌ ورؤيته وطاقته. وهذا الأمر قبل كلِّ شيء هو ضد النظرة المُدمِّرة وهي «عدم تحمُّل المسئولية الأخلاقية». ما يهمّ بالنسبة لذلك الطبيب أو لغيره، هو أنهم يفعلون شيئاً في ظرفهم العصيب. أن يضعوا حجراً على البناء، بدل أن ينظروا إليه وهو يتهاوى، وفي حالات أسوأ، المساهمة في هَدِّه.
لا يُوجَد أحدٌ غير قادرٍ على فِعل شيء مادام شهيقه وزفيره قائماً. كثيرٌ من الوقائع التي دلَّت على أن الإنسان ومع فقده للحركة (حتى) هو يمتلك المقدرة على الإنتاج، كما حصل لأكْسُحٍ أنتجوا ما لم ينتجه أولئك المهووسون بذواتهم وحسب. فهناك أصَمّ يخترع آلةً لمنع العدوى وإزالة التلوث وهو في عمر صغير. بل إنني وجدتُ كفيفاً يخترع مُوَلِّداً كهربائياً، ومعاقاً يخترع جهازاً يُمكِّن المشلولين من المشي، وآخر يبتكر دراجة بخارية للمعاقين. وثالث يبتكر جهازاً أمنياً لحماية الشخصيات المهمة... والقائمة لا تنتهي.
خلاصة القول هنا، أننا جميعاً قادرون على أن نُنتِج. وأن يكون لنا ما ينفع الناس، سواءً أكان قولاً أم فعلاً، ديناراً كان أم قنطاراً. والحقيقة أن أولئك المنتجين لا يجدون الحلول فقط كي يكونوا من الموهوبين، بل إنهم يكتشفون الإشكاليات فيكونون بذلك عباقرة، كما كان يصف ذلك الألماني هانز كرايلشيمر. خصوصاً وأنهم يفعلون ذلك من رحم المعاناة والمأساة، كما في حالة أصحاب الإعاقة، أو بمثال الطبيب حَسُّون وبلاده في أزمتها.
الثانية: وهي متعلقة بما فرضه علينا هذا العالم الافتراضي من واقع يستحيل تجاوزه. وهو أننا أمام عالَمٍ موازٍ لطريقة حياتنا التقليدية. عالَمٌ به اتصال وتفاعل وتداول أفكار، دون أن نستخدم حواسنا الأصلية. وهو ما يعني أننا قد نحيا حياةً جديدةً ومختلفة، رغم أنها غير قادرة على إلغاء الحياة بكل ما فيها من أرض وكائنات وكينونات هي بجوفها.
قبل فترة، أعلِنَ أن مُستخدمي فيسبوك شهرياً قد بلغوا مليار ومئتين وثلاثين مليون مستخدم، وأن إجمالي الإيرادات في الربع الأخير من العام 2013 بلغ 2.585 مليار دولار. وهو ما يعني أن 17.5 في المئة من البشر لديهم عالَمٌ موازٍ لعالمهم الأساسي. هذه الأرقام تعني أشياء كثيرة، ويكفي أن ندرك بأن مثل هذه الشبكات باتت تُقلق دولاً عظمى، وتهدّد أخرى بالانهيار، كونها وسيلة ذات سرعةٍ ضوئيةٍ في تبادل المعلومات والصور لا يمكن مجاراتها.
لذا، فإننا نرى اليوم، أن العديد من الدول الهشَّة، قد رفعت الراية البيضاء أمام هذه الشبكة التواصلية، واكتفت بتجريم المتعاطين معها بالطريقة التي تراها هي خاطئة، لكنها لم تستطع أن تواجه أصل العالَم الافتراضي. وهو ما يُدلل على أن أقلّ الناس باتت لديهم القدرة لأن يتعاملوا مع تلك الشبكة بطريقةٍ سهلةٍ ومُجدِيةٍ جداً.
وأمام هذه النعمة الكبيرة، فقد صار العالَم مختصراً أكثر من اللازم، وباتت المسافات تُطوَى في لحظات أمام أعيننا، ولم يعد هناك عذرٌ لأحد في أن لا يمد خيطاً فيها لتعميم الفائدة. فالمعلومة اليوم، لم تعد بحاجةٍ لكثير عناء، ولا لكثيرِ مال.
هناك أزرارٌ بين أصابعنا لا أكثر، فإن لم نكن فيها من البادئين، فعلى أقل تقدير، أن نكون فيها من الدَّالِّين على الخير، والمروِّجين له، وفي نفس الوقت، أن نُحْجِم عن نشر زخارف القول وفاسده والمُنفِّر منه.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4177 - الأربعاء 12 فبراير 2014م الموافق 12 ربيع الثاني 1435هـ
من الأدعيه وسلاح المؤمن دعائه
يقال حسبي الله وكفى ليس وراء الله منتهى بينما بعض الناس لا تدعوا الله وإنما تدعي على الناس بالويل والثبور! فهل يجاب من يدعوا على الناس؟ أو يجيب الله المطر إذا دعاه وتمسك بحبله – يعني آل بيته؟
مهووووول
مُستخدمي فيسبوك شهرياً قد بلغوا مليار ومئتين وثلاثين مليون مستخدم، وأن إجمالي الإيرادات في الربع الأخير من العام 2013 بلغ 2.585 مليار دولار. وهو ما يعني أن 17.5 في المئة من البشر لديهم عالَمٌ موازٍ لعالمهم الأساسي