في مرحلة عبور تاريخية قالها طارق بن زياد يوماً: «حرقت سفني كلها، وليس أمامي إلا أن أحارب»، وفي أيامنا هذه، يجوز السؤال: لِمَ لا تحرق الشعوب سفنها وخياراتها قد ضاقت؟ لاسيّما والواقع الذي تعيشه لا يحتكر الفضيلة وليس بين يديه الحقيقة المطلقة، وحده الوعي الزائف يظن أنّ النهاية البطيئة والاستئصال يبدأ بموتٍ شنيع هنا وعجز ضحية وتطهيرها هناك. وحده القابع في لوحته المضخمة يظن واهماً ذلك.
تتداخل الوقائع بالمصائر وتشكل علامةً فارقةً تنتج وحدة المعاناة التي تعيد إنتاج الذات الجمعية بتمرد أكبر، وسط ركام الخراب وأزمات الاضطهاد وانتصارات الوهم والهزائم المقرونة بكثير ألمٍ، وبعضٍ من زبد فقاعات فرح احتفالي زائف.
مثل غيمة بيضاء تُبعد ثم تبتعد لكنها لا تتلاشى، لا تلبث العودة بأدراجها كطائر الفينيق بزخم في زمنٍ تكاثرت فيه السموم. تعود بقوةٍ كاسحةٍ كالسيل، كرياح العواصف، تجرف في طريقها الخوف، تنزعه من قاع المدينة، فالثورة بهذا المعنى وذاك تجربةٌ إنسانيةٌ ترفض الوصاية وتنفض الخضوع، تتوق للحرية والنور، لِمَ لا وفي التاريخ كما روى أحدهم «أن أبناء الكآبة هدموا الباستيل»، نعم «هدموه»، بيد أنّ الإنسان من وقتها رفع رأسه مدركاً أنّ عليه البدء من جديد، تماماً من حيث انتهى آخرون. إنّها لحظة انكسار الصمت الأسود لحظة صبرٍ طال زمنه.
تُحفر في المخيلة شواهد وصور، لرفرفة الأعلام وأحمر الدم وأبيض لأكفان الأبرياء وأزهار الشباب تتلألأ أيقوناتٍ على السواعد في الظلماتِ تنذر بتباشير السلام والمحبة، الساعد يشد القبضات، الهامات عالية، والمد هادر، وأحلام الأمهات المتشحات بالسواد على مد البصر تحلقُ كطائرات ورقية بألوانها الزاهية.
تتناسل الكلمات مجتمعةً بأهازيج صاخبة تردّد «الشعب يريد، والشعب يحلم، والشعب يصر على التغييّر، الشعب مصدر السلطات»... هكذا دُوّنت الأغنيات في ملحمة الساعات الأولى وما تلاها من أيام وسنين. إنّه الدرب الصعب كما قيل. إنّه طريق الشوك الأوحد نحو الأحلام والرغبات.
تّتوحد الصرخات، تّتجاوز أسوار الكراهات الوهمية وجدران الفصل المذهبي، فكاتم الأصوات لا ينفع منذ عقود، فما بالك مع بشاعة مستنقع الدماء في منعطف الرعب. الغيمة تعود في مواسمها متجدّدةً إلى منصة الحدث المستديرة، للاقتحام أوان، وللفرح أوان، وللحزن المتمدّد أوان، بيد أنّ نهايته حتمية تاريخية لا محال، هذا ما تذكره قوانين الطبيعة.
تّتوالى روايات المأساة، تّتعدّد أشكالها، يبقى جوهر السرديات واحداً أعلى أسطح المنازل المنتهكة حرماتها، أمنا الغول، وملحمة المستديرة حيث تعاقدت زوايا الشمس مع النخيل الباسقات وصارت شاهداً على لحظة التخريب العبثية والتدمير الممنهج، ومعهما رقصة الموت التي لم تتوقف حتى اللحظة. هواجس الخوف اندثرت وولّت بلا رجعةٍ ثم تولدت لحظة الانتصار المجازية مشعةً في النفوس المتعبة المتألمة.
في مواسم الربيع الأخضر تعيد الشعوب اكتشاف ذواتها مع التجربة، تنظر إليها عبر الأبواب وتطل عليها من النوافذ تردّد: حقاً لكل زمن مرارته ورقصته، ولكل رقصة أدواتها وأسيادها، لكن رقصة الطيور المغرّدة خارج الأسراب شيء مختلف، ذلك لأنها تبلورت ونضجت وتحرّرت من دنس العبودية وهواجس الخوف، معلنةً عن نفسها لا تتوقف كالنزيف المقدّس في تلك المسرحية حيث البطل يسأل الوحش حين انقطع عقد الخيط الرفيع بينهما عن أسباب شهوته المتعاظمة للدم: لِمَ كل هذا الحقد؟ لِمَ كل هذا الحقد لماذا؟
ما لبث أنّ يعيد السؤال عليه تكراراً ومراراً في احتفالية الموت، وهكذا حتى وصل للموقع الذي حفر فيه الشباب بثبات خطواتهم وطقوسهم الرمزية في خضم انتفاضات الجسد. وفي المقابل يبرز مشهد العداء العاري، تهديدات فاحشة كثيرة، وأكاذيب متنوعة، وكاميرات تصوّب على دوائر حمراء دون أنّ يرفّ لها جفن في إطار مهمات المرحلة القذرة التي ما فتئت تفرّغ حمولتها أحقاداً بربريةً تتجاوز روح القانون الإنساني بتوالي العروض الليلية المفاجئة حيث تتحرك إثرها قطع الشطرنج على لوحة اللعبة السوداء.
إنها رحلة الخط التصاعدي التي أعادت الزمن إلى المربع الأول معلنةً تغيّر قواعد اللعبة، «لنا ما لنا، ولنا مالكم»!
وفي الأثناء تُرسم قواعد الزمن الافتراضي من وراء الحجب في الغرف المغلقة التي يتربّع فيها الأخ الأكبر وأعوانه يمهرون الأوامر وينفذوها، لكن الطاقة تتمدّد في الخارج ويرتفع معها منسوب التحدّي، إذ من الاستحالة أن تسحق الآلة المتضخمة زمن الغيمة، أو أنّ تسرق شروق الشمس أو تداول الأسئلة الوجودية عن أصل الكون، حتى وإن لطخت الأجساد بلزوجة الدم، وأفرزت قيح أحبارها السوداء تخويناً وشتائم، أو تساقطت أوراق الشجر الصفراء.
الغيمة تستمر في التحوّل بصلابةٍ وثباتٍ عبر الخلايا إلى جزئيات لامتناهية، ذلك لأنها تمثل لحظة الضرورة الحتمية... تلك التي أطلق عليها قديماً حديثاً «ثورة».
في خضم المشهد العام، سقط من سقط في اختبار المكان، وهناك من فقد الإيمان وتقوقع في شهادات الزور وتمرغ في أوحال اللغو والهجاء، فأفرغت ذاته من جوهرها الإنساني وغدت مجرد فراغ يبحر في اللامعنى، في حضن التدليل والتدليس. في هذا المشهد الغريب عاش المقهورون ويلات المراحل الصعبة سعياً وراء الديمقراطية والحق والعدالة والمساواة، صعبة لأنّ فعلها الصاخب سمىّ الأشياء بمسمياتها، وطرح بجرأةٍ أسئلةً ومطالب مسّت عضل علاقة التحيّز بالتمييز، بالتفرقة، باللامساواة، بالفساد، بالرّفاه الفائض في نسق ممنهج، فجاءت لتبرز صوت من لا صوت لهم، تبحث عن أسباب اغترابهم وإلزامية خضوعهم. ظلت «الثورة» مقابل ذلك حالة من التمرد الثابت الأكثر رسوخاً في رفض الواقع وعلاقاته اللامتكافئة.
قيل قد يأتي زمن تكون منكمشةً وفي حالِ انحسارٍ، لكن عودتها حتماً هو الأصل في الظهور والتشكل، كيف لا وهي التي لاتزال مقيمةً في النفوس حيث علاقة القوة والاستبداد والاستغلال لاتزال جاثمة. وصدق الراوي حين كتب: «الثورة تبدأ في القلب أولاً، وفي التفاعل مع الناس ثانياً»، لذا تبقى ثورات الشعوب تجربةً إنسانيةً حيةً نابضةًً متدفقةً طالما تربّعت في قلوبهم وعقولهم.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 4176 - الثلثاء 11 فبراير 2014م الموافق 11 ربيع الثاني 1435هـ
استمروا
استمروا ياشعب البحرين بثورتكم فان الله يبنصركم لان مطابكم حق والله يحب الحق ولا يحب الظلم
الحق
الحق سينتصر بس يبليه وقت فصبرا ياشعبى لانه الله ينصر الحق والثورة الابيه والله لايحب الظلم يمهل ولى يهمل