ليس من السهل تبرئة بعض الاسلاميين من جريرة معاداة الثقافة والابداع الثقافي، فهناك شواهد كثيرة تؤيد مثل هذا الادعاء، ومنطلق بعض المواقف الاسلامية المناهضة للثقافة هو في بعض الاحيان نظرة دينية عامة ترى ان هذه الدنيا وما فيها لا تستحق اهتماماً يذكر. وقد ظهرت هذه الرؤية في اكثر اشكالها صرامة في المقولة المنسوبة إلى الزعيم السوداني محمد أحمد المهدي الذي ذكر انه قال لاتباعه: «جئتكم بخراب الدنيا وعمارة الآخرة». وفي هذه الصيغة المتشددة تعتبر هذه الرؤية افضل دعاية للعلمانية، لأنها تقول للناس إن عمارة الدنيا ورعاية شئونها لن تتم إلا على يد من ترك الدين وراءه. أما أهل التدين فهم على افضل حال لا يحفلون بالدنيا وصلاحها، هذا اذا لم يتعمدوا تخريبها.
الموقف من معاداة الثقافة لا يبلغ هذا الرفض المتطرف، ولكنه يفخر كذلك بأن له جذوراً عميقة في التدين الاسلامي. ويوضح الانتقاد الذي تعرض له عبدالله بن عباس من بعض رواد حلقته العلمية منطلقات هذه النظرة، كما جاء في القصة المشهورة إذ انصرف عن الدارسين في حلقته ليستمع إلى رائعة عمر بن أبي ربيعة:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر
غداة غد أم رائح فمهجر
وهي قصيدة على روعتها لا تعبر عن مشاعر دينية قوية، بل العكس. وقد غضب جلساء ابن عباس من طلبة العلم وقالوا له: إننا نضرب إليك اكباد الابل لنسألك عن الحلال والحرام وأنت منصرف عنا تستمع إلى سفيه سفهاء قريش.
فصحح ابن عباس حفظهم مظهراً تذوقه العميق للابداع. ولكن ابن عباس لم يكن هو النموذج المحتذى لعلماء الدين والقادة السياسيين المتدينين في هذا المضمار، ومع أن الرسول (ص) كان يستمع إلى الشعراء ويجيزهم على إنشادهم، فإن النظرة المتدينة في مرحلة تالية اتبعت موقفا متشدداً من الشعراء وتفسيرا ضيقا لمصارف الموازنة، إذ رفض كل من عبدالله بن الزبير وعمر بن عبدالعزيز مجاراة من سبقهما من الحكام في تقديم الجوائز إلى الشعراء المبدعين.
وبالنسبة إلى الاسلاميين المحدثين فإن الانطباع السائد هو انهم لا يلتفتون إلى الابداع الثقافي إلا سلبا وانتقادا فهم لا يكتفون بعدم المشاركة في هذا الابداع، بل انهم لا يشاركون حتى في نقده نقداً بناء. فنحن نكاد لا نسمع شيئا عن الاعمال الفنية والادبية التي يعتبرها الاسلاميون اعمالا جيدة وبناءة، بل نسمع فقط عن الاعمال التي يعتبرونها خروجا على الاخلاق والدين. ولعل مبعث هذا ان النظرة الاسلامية العامة ترى في الفن والادب والرياضة ضربا من لهو الحديث واللغو الواجب الاعراض عنه. وقد سمعت مرة من احد مخضرمي الحركة الاسلامية في السودان ان الحركة الاسلامية هناك لم يكن لها موقف لدى نشأتها في الخمسينات من الادب والفن، ولكن الملاحظ ان كل عضو ينضم إليها كان يتخلى تلقائيا عن المشاركة في لعب كرة القدم أو الاستماع إلى الغناء. هذا على رغم عدم وجود اي تعليمات أو حتى نقاش عام في هذه المسائل.
وبالقدر نفسه فإنه يلاحظ ان الادباء المبدعين الذين كانوا ينضمون إلى الحركات الاسلامية كانوا يتخلون تلقائيا في الغالب عن نشاطهم الابداعي. ولعل اشهر مثال على هذا سيد قطب رحمه الله، وبدرجة اقل مصطفى محمود، فعلى رغم ان مصطفى محمود وظف بعضا من قدراته الابداعية في مرحلته الاسلامية فإن من الملاحظ انه طلق بصورة شبه نهائية العمل الادبي الابداعي. اما سيد قطب فإن القارئ يكاد لا يجد في نصوصه في مرحلته الادبية نصا ادبيا إلا ما ندر.
ولعل هذه الظاهرة في حاجة إلى دراسة في حد ذاتها، ولكن هذا يخرجنا عن موضوعنا، وهو دور الاسلاميين في الازمة الثقافية في مصر وغيرها من ديار الاسلام. ولعل فيما ذكر مدخلاً لتبرئة الاسلاميين من المسئولية عن اية ازمة ثقافية، إذ انها تشير إلى عدم وجود دور لهم في الساحة الثقافية العامة اصلاً.
كل ما يصدر عن الاسلاميين هو اعتراض على نص هنا أو فيلم هناك، وفي فترات متباعدة. وإذا كنا نعترض على ما يصدر من الاسلاميين هنا من باب ان هذه الامور انصرافية وهو موقف يؤيده مفكرون إسلاميون على رأسهم سيد قطب، إذ يرى ان اشتغال الاسلاميين حتى بانتقاد سياسات الحكومات القائمة وبرامجها الاقتصادية والسياسية من قبيل الانصرافية. فعند قطب يجب ان تكون الأولوية لتصحيح المفاهيم العامة وإقرار المبادئ الاساسية، ثم يأتي الحديث عن التفاصيل بعد ذلك، وبحسب هذا المفهوم فإن ما يصدر في كتاب هناك أو صحيفة هنا هو من تفاصيل تفاصيل التفاصيل.
ولا يمكن اعتبار مداخلات الاسلاميين هنا عدوانا على حرية التعبير، بل هي بالعكس من صميم حرية التعبير. فالاسلاميون سواء كانوا افراداً أو جماعة أو اعضاء في البرلمان لا يملكون من السلطة شيئا، وبالتالي فهم ليسوا مسئولين عن تحديد ساحة الحرية المتاحة. اما القول إن تعبيرهم عن آرائهم في هذا العمل أو ذاك تعدياً على حرية الآخرين فهو في حد ذاته إفصاح عن معاداة لحرية المخالفين في ابداء آرائهم.
وكشفت المساجلات التي جرت اخيراً على الساحة المصرية عن جوانب مهمة من ازمة الثقافة العربية في الدولة العربية المعاصرة والمجتمع العربي المعاصر، ولا نريد هنا ان نخوض في تحديد مفهوم الثقافة والمثقف، ولكن من الواضح ان الاصوات المهيمنة على الساحة الثقافية في مصر اليوم لها تعريفها للمثقف، وهو تعريف له صيغة ايديولوجية واضحة. فالمثقف عند البعض ليس هو الشخص الذي يتحلى بقدر معين من المعرفة والاطلاع والقدرات الابداعية والتعبيرية، وإنما هو من يتخذ مواقف سياسية وايديولوجية معينة. مثلا وزير الثقافة المصري تحول بين عشية وضحاها من عميد المثقفين المصريين إلى عدو الثقافة عند البعض بسبب مواقف سياسية اتخذها.
هناك إذن نظرة معينة لدور الدولة في الساحة الثقافية وعلاقة المثقف بها، فالرأي السائد عند قادة الحركة الثقافية هو ذلك الذي عبر عنه الدكتور سعدالدين ابراهيم عن علاقة المثقف بالامير، وهو بالمناسبة الموقف التقليدي نفسه الذي ساد الساحة العربية من ايام شعراء البلاط وابن المقفع وغيرهم - فالمثقف بحسب هذا المفهوم هو نديم الامير ومستشاره، وسلطته تنبع من سلطة الامير بل وتذوب فيها. وهذه النظرة تفصل بين مفهوم المثقف من جهة والمواطن من جهة اخرى، وتناقض المفهوم الحديث للمثقف الذي يستمد سلطاته من المواطنة مرتين: مرة باعتباره مواطناً يتساوى مع غيره من المواطنين، بمن فيهم الحاكم، في الحقوق السياسية، ومرة اخرى لأن نفوذه يستمد من قبول المواطنين الآخرين لآرائه. فالمثقف الحديث لا يعتمد على السلطة في كسب رزقه، بل على قرائه ومستمعيه ومشاهديه، ولهذا لا يحتاج إلى مدح السلطان والجلوس على اعتابه انتظاراً لرضاه، بل بالعكس، نجد السياسي يحتاج إلى المثقف لتسويق نفسه جماهيرياً.
وقبل كل هذا وبعده فإن المثقف يستمد سلطانه من قاعدة اخلاقية تتعالى على الحكم والمواطنة معاً، فحين يصرخ إميل زولا «اني اتهم» فإنه يتهم الشعب والحكومة معاً باسم قيم عليا لا يسع هؤلاء إلا الاقرار بها. والمثقف هنا يكون اشبه بالفقيه والعالم في المنظومة الاسلامية التقليدية منه بالشاعر والاديب.
الازمة الاخيرة في مصر كشفت ان مفهوم المثقف لنفسه هو مفهوم النديم والتابع للسلطان - فالمعركة لم تكن على حرية النشر بقدر ما كانت على احقية المثقفين في عطايا السلطان، سواء أكانت هذه العطايا في شكل وظائف حكومية أو نشراً مجانياً ومدعوماً لمطبوعات لم تجد لها مكاناً في السوق. ومثل هذا الصراع صراع خاسر للمثقفين، لانهم قبلوا سلفا برسم حدوده التي تجعل للحاكم كل السلطة ولا تعطيهم إلا دور الكومبارس، وقد اكتشف سعدالدين ابراهيم هذه الحقيقة لقاء ثمن فادح حين وضعه «الامير» في الحبس وقفص الاتهام. ويزيد الامر سوءاً ان الصراع بين الاسلاميين وخصومهم لا يدور حول الرأي والتعبير، بل حول من يكسب عصا الامير لصالحه ضد خصومه، فهو صراع على توظيف الاستبداد لا ضده?
العدد 98 - الخميس 12 ديسمبر 2002م الموافق 07 شوال 1423هـ