العدد 4174 - الأحد 09 فبراير 2014م الموافق 09 ربيع الثاني 1435هـ

إيهٍ أيتها الحرية... كم من الجرائم تُرتَكَب باسمك!

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

مدام رولان. فتاة فرنسية جميلة وذكية. كانت إحدى الناشطات في مجال السياسة. وقد أبلَتْ بلاءً جيداً خلال الثورة الفرنسية عام 1789 ضد حكم الملك لويس السادس عشر. ومع مجيء ماكسميليان روبسبيير وتيار اليعاقبة المتطرف إلى السلطة، بدأ عهد الإرهاب، الذي حَكَمَ فرنسا بسياسة «الظن»، فقُتِلَ الآلاف من الفرنسيين وأهل النضال والثورة.

وكان من بين الذين عُذِّبوا وحُكِمَ عليهم بالإعدام، المناضلة الفرنسية، والناشطة السياسية في مجال المساواة والحرية مدام رولان، بعد أن لُفِّقَت تهمة الخيانة بحقها. وعندما سِيْقَت إلى مقصلة الإعدام، سَمَحَ لها العسكر بأن تقول شيئاً تودّ أن تقوله قبل فصل رأسها عن جسدها. فقالت: «إيهٍ أيتها الحرية! كم من الجرائم ترتكب باسمك».

والحقيقة، أن هذه الحادثة التاريخية، هي مناسبة جيدة للحديث عن الجرائم التي تُرتَكَب باسم الحرية في عالم اليوم. نعم، ربما (وقد حَدَثَ هذا على مرّ التاريخ) أن قامت ثوراتٌ بقضم أبنائها وأكلهم والتنكيل بهم، لكن لا يعني أن ذلك وحده هو أساس الإشكال. فباعتقادي، أن هناك أمراً أسوأ منه، وهو ادّعاء الجبابرة، وأرباب الظلم من الحكام والزعماء، أنهم يقيمون العدل أيضاً، وهم يفعلون الظلم البيِّن، والجور الصريح. وهنا يصلح أن نكرِّر مقولة مدام رولان السابقة: «إيهٍ أيتها الحرية! كم من الجرائم ترتكب باسمك»!

وفي كل الأحوال، فإن الجرائم المرتكَبَة في كلتا الحالتين مأساوية (الحكم الثوري/ الحكم الديكتاتوري) إلاَّ أن ظروف الجريمة في أحيان الثورة، عادةً ما تقع وتكتسب سوءاً في تفسير المواقف والأفعال، وتزاحماً في النظرة إلى الآخر، من منطلق التنزيه أو التخوين، بفعل الظرف الأمني والاجتماعي الصعب والمدلهِم، والولاءات الرخوة وغير المتماسكة.

لكن، صورة الجريمة المرتَكَبَة في الحكم الديكتاتوري، عادةً ما تأتي على أثير التسلط المستمر، الذي يقوم بتكريس حالة نمطية من السلوك الخاطئ، وإقامة نظام عقوبات مُفصَّل على مقاس الفرد الحاكم المنَزَّه عن كل زللٍ واتهام ومصالحه، وليس على مقاس الدولة ذاتها ومداها الأوسع، وما يُمكن أن ترتكبه من أفعال، قد تأخذ جانب الخطأ في أحيان كثيرة. لكن أعود وأكرر، أن ذلك لا يعني صكاً لتبرير فعل الجريمة أياً كان مصدرها.

ما نشاهده اليوم، يتعدى ذلك التشخيص، فهو يمتد ليصل حتى إلى العناوين الكبيرة، والمفاهيم السياسية، حيث يتم تكييفها وفقاً لحيِّز الفرد الحاكم. فإن كانت العدالة تقتضي أن يُسجَن خمسة آلاف شخص من أجل حماية الحاكم وجوقة معه، فلا ضير، وبذلك تصبح العدالة قائمة ما قام به الحاكم، وليس لمقتضيات التجريم المستوفي لشروط الجرم الصحيحة التي دوَّنتها القوانين، وليس وفق الأهواء والرغبات وخلافها.

وإن كانت الحرية والديمقراطية تقتضي، بأن تُشكَّل كافة الهياكل «الصُوَريَّة» للديمقراطية على هيئة كارتونية، لا تستطيع أن تمنع نهب الثروة، ولا لَجْم الفساد، ولا تجريم المخطئين، مع إعلام هابط ومُسوِّق، فإن ذلك ممكنٌ ما دام هذا المقاس، هو الأليَق بالحاكم الفرد والمطلق. وربما وجدنا ذلك في العديد من صور الحكم الفاسد، التي تكيَّفت بقضِّها وقضيضها من أجل رجل واحد ومَنْ معه.

هنا، تتشوَّه العدالة، وتتجوَّف الحرية والديمقراطية، وترتبك المفاهيم كلها، ليبدأ عهدٌ من التدليس والنفاق. إذ لا يُعقل أن تكون ديمقراطية النرويج، قادرةً على جعل الفساد لا يزيد عن 3.9 في المئة، في حين يصل في دول أخرى إلى أضعاف ذلك، ثم تقول أن لديها مؤسسات ديمقراطية! ولا يعقل أن تكون حرية الدنمارك حاميةً للصحافيين، ومُعرِّيةً للمثالب، وحرية بلدان أخرى (تدّعي الحرية) ساجنة للصحافيين ومُصفّقة للخطايا! هذه معادلة واضحة ولا يُمكن لإعلامٍ أن يخدع شعباً ما بها.

ما هو مُدرَكٌ عقلاً هو أن الأشياء لها شروط موضوعية كي تكون كما هو مفترَض أن تظهر عليه. هذا الأمر يسري على أصول المعرفة العلمية والفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية والتقنيات والعلوم التطبيقية والآداب، بل وعلى كل شيء في هذا الكون. أما أن يأتي أحدٌ أياً كان هو، ويُخلّ بذلك النهج، ويدّعي خلافه، فهو بالتأكيد يُمارس خداعاً على الناس.

المشكلة التي بتنا نراها اليوم، أن مَنْ هم على تلك الشاكلة السيئة في قلب مفاهيم الحياة والمنطق، لم يكتفوا فقط بتكريس تجربتهم العرجاء في الحكم والسياسة، بل هم يُقدِّمون النصح أيضاً للآخرين، كي يستقيموا في فعلهم، والناصح على السوء، وكأنهم من شيوخ العِظَة. وهو أمر يُدلّل على أن أولئك غاية في التفاهة والسخف.

يُذكرني حالهم هذا بجواب الخليفة عُمر بن عبد العزيز على رسالة عمر بن الوليد بن عبد الملك، الذي دعاه فيها «تصنعاً» بتقوى الله بعدما قضى الخليفة لصالح الرجل الذمِّي بدل العباس بن الوليد بن عبد الملك. وهي رسالة جديرة بأن أختم بها المقالة.

فقد كتَبَ عمر بن عبد العزيز لابن الوليد: «نشأتَ فكنتَ جباراً عنيداً، تزعمُ أني من الظالمين إذ حَرَمتُكَ وأهل بيتك فيء الله، الذي فيه حقّ القرابة والمساكين والأرامل، وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من استعمَلكَ صبياً سفيهاً على جند المسلمين، تحكم بينهم برأيك، ولم تكن له في ذلك نيّة إلاّ حُبّ الوالد لوَلَدِه، فويلٌ لكَ وويلٌ لأبيك، ما أكثر خصمائكما يوم القيامة، وكيف ينجو أبوكَ من خصمائه؟ وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من استعمل الحجاج ابن يوسف على خمس العرب، يسفك الدم الحرام ويأخذ المالَ الحرام؛ وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من استعمل قرة بن شريك أعرابياً جافياً على مصر، وأذِنَ له في المعازف واللهو والشرب؛ وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من جعل لعالية البربرية سهماً في خمس العرب، فرويداً يا ابن بنانة، فلو التقَتْ حلقتا البطان ورد الفيء إلى أهله، لتفرّغتُ لك ولأهلِ بيتك فوضعتكم على المحجة البيضاء، فطالما تركتم الحق وأخذتم في بنيات الطريق، وما وراء هذا من الفضل ما أرجو أن أكون رأيته بيع رقبتك، وقسم ثمنك بين اليتامى والمساكين والأرامل فإن لكل فيك حقاً».

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4174 - الأحد 09 فبراير 2014م الموافق 09 ربيع الثاني 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 14 | 6:20 ص

      الواقع

      جريمه وفوضوية من وين يبت هالحجي الي ماكول خيره ؟ في اي عصر انت عايش؟؟ ول تبون بعد المظاهرات والاحتجاج بكيفكم بعد؟؟
      كلمة سمو ولي العهد واضحه (( من حق الشعب الخروج في مسيرات ))

    • زائر 13 | 6:18 ص

      تقدر تنام

      تقدر تنام وما تتظاهر اذا كان لك ولد او بنت او اخو معتقل؟؟

    • زائر 11 | 4:30 ص

      انزين والي يطلع مظاهرة عند بيوت الناس وفي الزرانيق بيوت الناس شنو يسمونها هذه .. حرية ولا جريمة ؟

      انزين والي يطلع مظاهرة عند بيوت الناس وفي الزرانيق بيوت الناس شنو يسمونها هذه .. حرية ولا جريمة .. طبعا جريمة .. لأنه مافي أحترام حق الخصوصية مافي أحترام للساكنين ويزعجونهم بدون مراعاة اذا كان في شخص مريض في البيت او لا . أنا اتمنى منكم انكم تكتبون عن هذه الأشكال الفوضوية بدل ماتكتبون عن الثورة الفرنسية الي عفا عليها الزمن . واذا بغيتون تصلحون اصلحوا بنفسكم أول مو تقرانون نفسكم بغيركم .

    • زائر 10 | 4:30 ص

      ارجو من الكاتب

      ارجو ان تكون مقالاتك سهله للقراء لغويا ومفهوميا !!

    • زائر 9 | 4:28 ص

      رد

      قامت ثوراتٌ بقضم أبنائها وأكلهم والتنكيل بهم،!!
      مو هاي واضح ومو عكس الي اقصده؟؟ الثورات عمرهه ما جانت جريمة وعمرهه ما كانت عكسية عل صاحبهه الي هو الشعوب ولكن الجرائم تبتدي من الانظمه القمعية الي ترد عل الثورات السلكين المطاابه بالحريه ومواجهتها من قبل الانظمه والرد القمعي بحجة الخيانه!!!

    • زائر 16 زائر 9 | 10:03 ص

      الثورة تاكل ابناءها

      الثورة الروسية أكلت تروتسكي والثورة المصرية اكلت محمد نجيب

    • زائر 4 | 1:55 ص

      نصايح الطغاة

      صدام والقذافي ومبارك وبن علي والاسد كلهم يعطون نصايح في الديمقراطية

    • زائر 3 | 1:35 ص

      تقصد؟؟

      تقصد الثوراة جرائم باسم الحرية؟؟
      كل ثورة قامت وصار فيها قتل بسبب رد الانظمة عل الثورات كل نظام عربي قامت عليه ثورة استخدم الحل العسكري والقمع فشلون تكون الثورات جريمة باسم الحريه كل من تابع ثورات الربيع العربيً شفته مظاهرات سلمية والرد كان قمعي !! فما ادري شلون الثورات صارت جريمة في باسم الحريه !!

    • زائر 5 زائر 3 | 2:35 ص

      إلى الزائر رقم ثلاثة . تقصد

      إقرأ المقال جيداً فهو يتحدث بعكس ما تعتقد

    • زائر 2 | 10:46 م

      شكرا

      مقال جميل يا اخ محمد

اقرأ ايضاً