هل يمكن أن تكون العملية التفاوضية التي تمت خلال عشرة أيام في مؤتمر «جنيف 2» وما سيلحقها من جولات قادمة بين طرفي النزاع السوري، الأداة الأشد والأكثر تأثيراً على المدى المنظور في إنهاء الحرب العبثية الدامية والخروج منها نهائياً باتجاه الأمن والاستقرار؟
من أسفٍ، فإن مؤشرات ما حدث في «جنيف 2» لا تشي بذلك، والأسباب متعدّدة نستعرض أبرزها في هذا المقال.
سبب أول: غياب الجدية وعدم اكتمال عناصر الحل بتفاصيلها بين عرّابي المفاوضات الدولييّن، موسكو وواشنطن، على الرغم مما أشيع في الإعلام حول اتفاقهما على أولوية محاربة الإرهاب في «جنيف 2»، بل وعدم مراعاتهما لقواعد اللعبة، لاسيما الجانب الأميركي الذي تصاعدت أثناء المؤتمر لهجة حلفائه (فرنسا والسعودية وتركيا وقطر) عبر تحميلهم النظام السوري وحده مسئولية الحرب والإرهاب والمطالبة بمحاكمة رئيسه على «جرائم الحرب»، فيما عادت واشنطن إلى خيار «الضربة العسكرية» والتلويح بقضية عرقلة النظام بتسليم أسلحته الكيميائية، تماماً كما ذكر وزير الخارجية الأميركي جون كيري في مؤتمر صحافي ببرلين: «إنه إذا أخفق الرئيس السوري في الوفاء بالتزاماته، فإن الولايات المتحدة وحلفاءها سيجتمعون لدراسة الخيارات». وردّ على ذلك الدبلوماسي الروسي ميخائيل أوليانوف: «إنّ الحكومة السورية تعمل بصدقٍ للقضاء على أسلحتها الكيميائية، وإنه ما من حاجةٍ لزيادة الضغط على دمشق برغم التأخيرات».
يضاف إلى ذلك ما أثير من لغط عن تدخلات السفير الأميركي روبرت فورد العلنية، إمّا بإشرافه على أعضاء وفد «الائتلاف المعارض» أو بتوجيههم وإعطائهم التعليمات قبل وأثناء انعقاد المؤتمر، حتى إنّ الكاتب اللبناني محمد بلوط كتب قائلاً «أنه المفاوض الأميركي الفعليّ مع النظام السوري في جنيف خلف الائتلاف، وهو الذي حسم الخلافات التي نشبت على قيادة وفد المعارضة»، وهذا يضعف قدرة الائتلاف على اتخاذ قراراته المستقلة دون العودة إلى جهات متعددة.
سبب ثانٍ: عدم خروج المؤتمر بنتائج واضحة ملموسة تمثل اختراقاً سياسياً جاداً، خصوصاً أن النتائج أدت إلى ترحيل المفاوضات إلى جولة تفاوضية قادمة، قيل إنها غير مضمونة من فشل آخر وتُبقى طرفي النزاع في حال تفاوضي متتابع حتى في حال صفر نتائج، لمَ لا والمبعوث الدولي الأخضر الإبراهيمي ما فتئ يصرّح طيلة أيام المؤتمر «لم نحرز أي تقدّم»، مؤكداً عدم تحقيق أية نتيجة فعلية، على رغم تمسكه بالأمل في دفع الطرفين إلى التفكير في شعبهما السوري ووقف الحرب الظالمة، إلى أن انتهى إلى قراءة بيان تضمّن رأيه الشخصي عن الجولة الأولى تبين بعدها أن طرفي النزاع رفضا التوقيع عليه مما ينذر بعودة الحرب وبقسوة أشد.
سبب ثالث: أثبت مؤتمر «جنيف 2» صعوبة العملية التفاوضية وحساسيتها وتعقدها بسبب سعي نظام الأسد الحثيث للبقاء والحفاظ على مصالحه القائمة، رافضاً أي حديث عن نقل الصلاحيات أو عن «هيئة انتقالية» أو «تنحّي الرئيس»، لمَ لا وهو الذي يجد نفسه اليوم وبعد هذا الدمار أقوى على الأرض وأكثر تماسكاً من أطراف المعارضة المتشرذمة التي يلغي بعضها بعضاً بالقتال في الميدان أو بالتهميش والاستبعاد عن عملية التفاوض. كما إن النظام السوري لا يعترف «بالائتلاف المعارض» كممثل عن كافة فصائل المعارضة، خصوصاً بعد استبعاد «هيئة التنسيق» المعارضة من حضور المؤتمر.
ومما يعزّز مؤشرات الفشل تقدم الوفد الحكومي نهاية أيام المؤتمر بورقة تضمنت خمس نقاط كي يوافق عليها الائتلاف، إلا إنّ الأخير رفضها واعتبرها انحرافاً عن إطار مؤتمر «جنيف 1»، فيما وجد المراقبون أنّ هذه النقاط تعجيزية هدفها إحراج «الإئتلاف» وإظهاره أمام العالم كطرف داعم للإرهاب ليس إلا، فيما يرد الجانب الرسمي على مسألة «الحكومة الانتقالية» المعضلة: «لدينا حكومة وعندما نرى شريكاً حقيقياً في صنع المستقبل يمكن أن ينضمّ إليها»، ومنه انتهى الوفد الحكومي إلى عدم تأكيد عودته للمشاركة في الجولة المقبلة بعد عشرة أيام بحجة التشاور مع دمشق، الأمر الذي فسره المحلّلون ترجيح مواصلة القتال.
سبب رابع: من جانب متصل إصرار «ائتلاف المعارضة» على تسلم مفتاح دمشق والسلطة معاً وإجبار الخصم على التنازل عنهما بإقرار المرحلة الانتقالية التي يتم فيها التخلص نهائياً من الرئيس الأسد. ولتأكيد الإصرار على موقفه تقدّم أواخر أيام المؤتمر بلائحةٍ تضمنت أسماء شخصيات «للهيئة الانتقالية» التي يسعى إلى اعتراف الخصم بها، في حين أن القتال بين النظام والمعارضة المسلحة ومعها الجماعات التكفيرية مستمر على الأرض السورية، حيث يفتقد هذا الائتلاف أية سلطة للتأثير على الجماعات المسلحة، مما جعل خصومه يصفونه بالهشاشة والتفكك والعمالة والخيانة، خصوصاً وقد أعلن احتفاءه بما أوردته وكالة «رويترز» مؤخراً عن قرار سري اتخذه الكونغرس الأميركي بتسليح المعارضة «المعتدلة» في سورية، ما يعنى ذهابه مجدداً إلى أرض المعركة والقتال.
سبب خامس: تقصير الأمم المتحدة في دعوة إيران واستبعادها عن المؤتمر، حيث مارس حلفاء الولايات المتحدة (السعودية وفرنسا) ضغوطهم على الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون لسحب دعوتها للمؤتمر كشرط لحضور «الائتلاف»، وقد قيل في الأصل أن إيران لم تتحمس لحضور «جنيف 2» خصوصاً وهي التي ترفض الالتزام بمقررات «جنيف 1» الذي يشير إلى نقل الصلاحيات الرئاسية والأمنية إلى «هيئة انتقالية»، كما إنّ غيابها يمنحها هامشاً من حرية الحركة تجاه النظام السوري، بيد أنّ هناك ما يُتردد عن احتمالية حضورها في الجولات المقبلة. وهناك تقصيرٌ آخر تتحمل مسئوليته في عدم دعوة أطراف معارضة وطنية أخرى وهيئات من المجتمع الأهلي.
سبب سادس: ممارسة نهج «استراتيجية الضغوط التفاوضية» داخل جلسات التفاوض وخارجها سواءً أكان في مسألة تقطيع الوقت وتشتيت الجهود والمراهنة على عدم الوصول إلى نتيجة، فضلاً عن الضغط الإعلامي والنفسي، كما يلاحظ في إجبار كل طرف على اتخاذ موقف معين أو القيام بسلوك معين بما يتطلبه الإبقاء على القضية التفاوضية تتراوح في إطار مصالح وتداول الأطراف الدولية الرئيسة وحلفائها الإقليميين، الأمر الذي منع الخصمين من الانسحاب والبقاء في جنيف حتى نهاية المدة المقررة للمؤتمر، لذا لم ينتج المؤتمر أي اتفاق ذي صبغة قانونية، ولم يتمّ التوقيع على أي شكل من الأشكال الملزمة للطرفين المتفاوضين.
من هنا يبقى شبح التقسيم وإطالة أمد الحرب بارزاً ينهك ويضعف قدرات الدولة السورية، ويدفع إلى المزيد من الفوضى وعدم الاستقرار بسبب مد المنظمات والجماعات المسلحة والجهادية السلفية في صفوف المعارضة بالسلاح وفتح الحدود لتدفق الجهاديّين إلى الأراضي السورية، إذ يقال إنّها بلغت قرابة الـ 40 ألف مقاتل في صفوف «داعش» و»النصرة»، وثمة سيناريوهات محتملة يدور الحديث عنها من بينها الضربة العسكرية، أو «الصوملة»، بمعنى استمرار الحرب اللانهائية المؤدية للفوضى و»الدولة الفاشلة»، فضلاً عن سيناريو «سايكس بيكو» جديد يقسّم الدولة إلى دول صغيرة علوية في الساحل تجاه دمشق، سنية في الشمال مع قسم من الجنوب والشرق؛ وكردية في الشمال الشرقي؛ وكذا سيناريو انتصار النظام بعد قتال دموي مستمر لسنوات لكنه يبقى على دولة ضعيفة مرتبطة أكثر بإيران؛ وسيناريو انتصار المسلحين بعد حرب استنزاف لسنوات أيضاً. في كل الأحوال يبقى الدمار والعبث عنوان مراحل حرب الاستنزاف!
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 4169 - الثلثاء 04 فبراير 2014م الموافق 04 ربيع الثاني 1435هـ