يسأل الابن أباه عن الله وما شكله؛ فيرتبك وينهره. تسأل البنت أمها عن الجنس فتغضب وتقول لها «عيب». يكبر الفتى وأخته وهما لا يعرفان عن الله إلا ما قرآه في مادة التربية الإسلامية في المدرسة، التي غالباً ما تصوّره، جلّ وعلا، على أنه ينتظر هفوةً من عباده حتى يعاقبهم، تعالى عن ذلك علواً كبيراً. أما الجنس، فغاية ما يتعلمانه عنه في المدرسة هو درس عن الأعضاء التناسلية في مادة الأحياء، يمر عليه المعلم أو المعلمة بسرعة وعلى استحياء، ودرس آخر عن الطهارة يتحدّث فيه المعلمون عن الغُسْل وكأنهم يتحدثون عن جريمة.
تبدأ تغيرات جسدية عند الفتى وأخته، ولأنهما يخافان من سؤال أبويهما ومعلميهما، فإنهما يلجآن إلى الأصدقاء والإنترنت، فيسلك أحدهما درباً شائكاً، ويصاب الآخر بصدمة فينطوي على نفسه وتبدأ عُقَده الداخلية بالتشكل مع مرور الوقت.
يتخرجان من الجامعة، يتزوّج كل منهما فيصطدمان بالشريك الجديد، ليس جنسياً فقط، بل اجتماعياً وعاطفياً أيضاً. فعلاقة أبويهما أمامهما عندما كانا صغيرين كانت رسميةً، وربما لم يسمعا أحدهما يقول للآخر «حبيبي»!
يدخلان الثلاثين، يحتكان بالعالم، يتواصلان مع مختلف أنواع البشر على الإنترنت، فيصدمهما العالم على شاشاته الثلاث (وهو مصطلح لعبدالله العذامي) شاشة التلفاز، شاشة الكمبيوتر، وشاشة الهاتف. يريان كل شيء، يسمعان كل الآراء، يحتكان مع آلاف البشر، ويتعرضان لآلاف الأفكار والآراء حول الدين والوجود والحياة، دون أن يملكا تفسيراً أو حتى فهماً بسيطاً لأي منها.
وعندما يعودان إلى واقعهما، يسمعان رجلاً يقول في الإذاعة إن ممارسة الشعائر الدينية ستعيد للأمة مجدها، وتجعلها في مقدمة الأمم، وستحل مشكلات البشر النفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية... فقط إذا عادوا إلى الدين! ثم يتساءلان: ولماذا تقود الأمم «الكافرة» العالم رغم أنها لا تمارس شعائر الدين! لماذا سيدخل العلماء والباحثون والمخترعون الذين أنقذوا ملايين الأرواح باكتشافاتهم وأدويتهم وخففوا معاناة البشرية باختراعاتهم، النار، وسندخل نحن الجنة رغم أننا لا نستطيع حتى أن ننتج دواءً للصداع!
ثم تغزو العالم أفكار غريبة وشاذة، فيقرآن عن السماح بزواج المثليين في بعض الولايات الأميركية، ويتساءلان لماذا لا يُسمح بذلك في بلادهما؟ لماذا لا يحصل المثليون على «حقوقهم» أسوةً بالعالم المتقدم! وفي أعوام قليلة، تسيطر هذه التساؤلات «المُفزعة» على تفكيرهما، وتقضّ مضاجعهما قضايا الوجود، فيجدان نفسيهما فجأةً في مجتمع لا يُقدم أصحاب الفكر فيه أية إجابات مُقنعة، والسبب أنه مجتمع جبان، يغرس رأسه في الرمال خوفاً من مواجهة الواقع، مُتعللاً بالعيب والحرام!
الحرام الحقيقي هو أن نترك أبناءنا دون إجابات، والعيب أن نغرقهم في قصص الكرامات وغزوات المستعصم وفتوحات طارق بن زياد، في زمنٍ يؤصل فيه علماء العالم الأول لقضاياهم تأصيلاً معرفياً بالدراسات والبحث العلمي.
لا توجد أمةٌ منفصمةٌ عن واقعها كأمتنا الإسلامية، وإذا أردتَ التأكد من صحة هذا الكلام فافتح كتاباً كُتِبَ حديثاً في أحد علوم الدين الشريفة، أو تابع برنامجاً دينياً على التلفاز، وأتحداك أن تقرأ أو تسمع من يأتي بآراء فقهية أو أطروحات في العقيدة لعلماء على قيد الحياة!
الغريب في الأمر أن جُلّ علماء الأمة كان فقههم «فقه واقع» فاستنبطوا الأحكام بناءً على تجاربهم وحاجاتهم حينها، إلا نحن اليوم، ننقل أحكام الأولين لنُقْحِمَها إقحاماً على واقع عصرنا. فدور الفقه هو التفاعل مع الواقع وحاجات الناس!
ممارسة الشعائر فقط لن تحل مشكلاتنا، فالناس تحتاج إلى العدل والمساواة والحريات والضمان الاجتماعي والرعاية الصحية والأمن والاستقرار وارتفاع معدلات الدخل وتوفير وظائف. كل هذه الأشياء وغيرها لن يحلها الإغراق في الوعظ والإكثار من الحديث عن الإيمانيات والحض على ممارسة الشعائر، ولن يعالجها التهرب منها إلى سرد قصص بغداد والأندلس.
بعد أعوام لن تكون مشكلة المجتمع في هل تقود المرأة السيارة أم لا، ولن تكون مشكلة بناتنا مع الحجاب، ولن تكون مشكلة أولادنا مع الصلاة، بل إنهم سيسألون هل هناك رب أم لا؟ هل توجد جنة ونار أم لا؟ لماذا خُلقنا ولماذا نحن هنا؟ لماذا لا يتزوج الرجل من رجل والفتاة من فتاة؟ لماذا لا يُسمح للمسلم أن يترك دينه؟
هذه الأسئلة وغيرها من التساؤلات الكُبرى التي ستواجهنا قريباً، هي ما يجب أن نستعد له الآن. هي ما يجب أن نبدأ بنقاشه وتمحيصه ليس بالدين فقط، بل بالمنطق والعقل استناداً إلى الدين العظيم والواقع المُعاش.
علينا أولاً أن نعترف بأن لدينا مُلحدين، وشاذين، وأن هذه قضايا عالمية لا يمكن التهرّب من مواجهتها. علينا أن نطرح هذه القضايا، التي نستحي منها، للنقاش في الجامعات ومراكز الأبحاث ومنابر الجُمَع ونتحدث فيها على الملأ. وعلينا ألا نخاف من مواجهة الواقع واقتراح الحلول، حتى لا ينشأ جيلٌ في الظلام، ينهار عند أول مواجهة له مع العالم.
أخطر مشكلاتنا أننا نعيش في الماضي، نحلم في الماضي، نختلف ونفترق في الماضي، نحب ونكره في الماضي، نفكر ونستنبط في الماضي.
إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"العدد 4165 - الجمعة 31 يناير 2014م الموافق 30 ربيع الاول 1435هـ
اتفق معك في كل ما قلت
اتفق مع الكاتب في كل ما اسرد - أضيف عليه انه عندما نختبر كثير من معتقداتنا - سنكتشف ان أكثرها قناعات وليست معتقدات - نحن نعتقد انها معتقدات.
الأمراض الأجتماعية تنخر
الأمراض الأجتماعية تنخر في مجتمع جبان، يغرس رأسه في الرمال خوفاً من مواجهة الواقع، مُتعللاً بالعيب والحرام!
فقه الحريه
يا سيدى نحن نخلق مشاكل البناء ثم نتوه فى كيفية حلها صارت لنا مشكله كبيره ان من يطيل بوصتين من شعره ملاحقا بحجة الا نحراف فخلقنا المشكله وعجزنا عن الحل وجاءت داعش لتقول من لا يطيل شعره يستحق القتل