نَصْبُ النخيل، هو واحدٌ من أطول القامات الحجريَّة «المرسومة» بواقع تسعة أمتار عُلُوّاً، ومترين ونصف المتر عرضاً. قبل ثمانية أعوام، اضطلعت جمعية الاسكافي لتجميل البحرين بتشييده بمناسبة الرعاية الملكية للاحتفال باليوبيل الذهبي للتنقيبات الأثرية في قلعة البحرين، والاستعداد لتسجيلها في قائمة التراث الإنساني لدى منظمة اليونسكو.
كان النَّصْبُ شامخاً طيلة ثلاثة آلاف ومئة وخمسة وتسعين يوماً، وسط مساحة كانت فراغية وكانت صامتة فأحياها بُمحيَّاه وطلعته، متكئٌ على سارية صلبة، عند كُوَّة شارع النخيل المتلألئ، والذي تندَاح على جانبيه آجام الشجر الباسق، قبل أن تقوم بِهَدِّه جَرَّافاتٌ صباح يوم الجمعة الماضي، فتُسوِّيه بالأرض.
نعم، ربما اليوم نَصْب النخيل لم يعد موجوداً كوجودٍ مادي، لكن ذلك لا ينفي حقيقة أنه كان موجوداً، وله سيرة وقصة يجب أن تُروَى. فـ «بدون الذاكرة، لا توجد علاقة حقيقية مع المكان» كما قال الشاعر الفلسطيني محمود درويش. وما دام له تاريخ، فهو يعني «صيغة أحداث الماضي التي قرر الناس الاتفاق عليها» كما قال إمبراطور فرنسا نابليون بونابرت.
شخصياً، وَاكَبتُ نَصبَ النخيل مذ كان فكرة تُختَمَر. كان الأخوة في جمعية الاسكافي لتجميل البحرين يتداولون فكرة إنشاء سارية يتَّكئ عليها نَصْبٌ يحكي رواية التاريخ الأبعد للبحرين، حيث الحضارات القديمة، وصولاً لحاضرها وحداثتها، وتزمين ذلك مع مناسبة وطنية كبرى، وهي ذكرى اليوبيل الذهبي للتنقيبات الأثرية في قلعة البحرين.
كانت الرسومات الموضوعة من قِبَلِ مُهَندِسِيْ الجمعية وفنانيها تُوضَع وتُبدَّل، وتُشذَّب ويُعاد تصويرها، ثم تُستَفتَى الآراء عليها، فكان حالهم كحال العماد حين قال: «لاَ يَكْتُب أَحَدٌ كِتَاباً فِي يَومِهِ إِلاّ قَال في غدِهِ لو غُيِّرَ هذا لكانَ أَحْسَن، ولو زِيدَ هذا لكانَ يُسْتَحسَن، ولو قُدِّمَ هذا لكان أَفضل، ولو تُركَ هذا لكان أَجمَل». حتى صار كما كان.
وعندما تثبَّتوا من مرئياتهم الهندسية، بدأت اتصالاتهم بالوزارات المعنية، والجهات الرسمية، للتدارس معها، وأخذ الموافقة على هذه وترك تلك. وفي ذات الوقت، بدأت الإسكافي في تسويق الفكرة أمام الشركات والمؤسسات الوطنية، طمعاً في تمويلها، وجعلها واقعاً. ولأن الفكرة كانت تحمل التميُّز والجِدَّة، فقد لاقت الاستحسان والتشجيع والدعم.
كان ذلك بحد ذاته عملاً مضنياً استمرَّ لأيام، بساعاتها الطِوال، وتداخل فيه الصبر مع الأمل، ممزوجاً في الرغبة الصادقة بالإتقان والإنجاز. وكان الحماس على أشُدِّه. والجهدان الذهني والعضلي يتناوبان على التعامل مع الوقت والتعب والإعياء. وقد كانت النتيجة، هي أن نَصْبَ النخيل أصبح جاهزاً للتنفيذ بعد الموافقة عليه ودعمه. وكم كانت تلك لحظة فوَّارة، تُجلِّلها فرحة انتصار الأمل على اليأس، والنشاط على ما دون ذلك.
باشرت جمعية الاسكافي لتجميل البحرين عملية التنفيذ بقدراتها الذاتية، وبأذرع داعميها، وتشجيع محبيها صغاراً وكباراً، ومسئولين قريبين وبُعدَاء. بدأت عملية وضع الطوب الخاص بتسوير محيط الرقعة الخاصة بالنصب، بالإضافة إلى الإنشاءات ذات الصلة. ثم بدأت عملية التشييد لَبِنَة بعد أخرى، والنَّصْبُ يَسْمُق ارتفاعاً وطولاً، وكأنه يعانق السماء.
وعندما انتهى العمل من البناء الاسمنتي، ودُمِّغَت جُدُرُه بالمحسِّنات ومواد التنعيم، نُصِبَت السَّقَّالات، وجاء الفنانون بأفكارهم وأرياشهم وأصباغهم، يمسحون عن الروح غبار الحياة اليومية كما وصَفَ الرسام الإسباني بابلو بيكاسو الفن. كان العمل دؤوباً، يصِلُ فيه الجمع نهارهم بِلَيلِهِم، دون كَلَلٍ ولا مَلَل، بل بِبَهجَة وسعادة لا تُوصفان.
كانت الفكرة العامة لعملية الرسم، كما وضعتها الجمعية بمشورة خبرائها الفنيين، هو تجسيد الحضارات القديمة للبحرين، وهي الحقبة الدلمونية، والتايلوسية، والأوالية وانتهاء إلى حقبة البحرين العظيمة، على الواجهات الأربع للنصب، إضافة إلى الرسومات التي تتحدث عن الأختام الدلمونية والزراعة والبحر في تلك الفترات الغابرة.
واكَبَ الإعلام هذا الحدث الفني. وكان لصحيفة «الوسط» حضورٌ بيِّن فيه. وكان صحافيُّوها يجولون في عموم منطقة اليوبيل الذهبي، يستنطقون النَّصْب في ثقافته ومعماره، وتجسيداته للحضارة والتاريخ. أتذكر أن زميلتي الفاضلة أماني المسقطي سألت فناناً شارك بريشته على جداريات النَّصْب عن سرِّ اختياره لألوانه فقال: «إن اختيار اللونين الأزرق والبُنِّي كواجهتين للنصب يأتيان كرَمزيْن لزرقة السماء ولون التراب الذي تُبنَى منه القلاع».
فنان آخر قال لها: «رَسَمْتُ جداريةً تعبّر عن خيول تنطلق في الفضاء، في إشارة إلى البحث عن الحرية وجو الانفتاح السائد في البلد، بأسلوب تجريدي، ومساحات لونية فيها تضاد لوني، مع بعض الرموز التراثية المرتبطة بتاريخ وتراث البحرين. إن فن الجدارية دائماً هو فن الشارع المرتبط بالناس، والذي يعطي فرصة لتعرف الناس على الفنان أكثر».
فنان ثالث قال: «اخترتُ الرسومات المتعلقة بالفترة الدلمونية وإبراز البحريني البسيط في ذلك الوقت، إضافةً إلى إبراز بعض أنواع الماشية والسمك، وإيضاح الفارق بين الغني والفقير، وإبراز الإنسان الطيب الذي يعطي مجتمعه بكل إخلاص». فعلاً... كان الحدث ينضح بالحيوية والعطاء، وكأن مدرسةً فنيةً مفتوحة، قد شرعت أبوابها أمام الجميع.
وعندما انتهى العمل من الرسم، بدا النَّصْبُ وكأنه تحفة معمارية، تختزل تاريخاً سحيقاً لهذه الأرض، ولغات الفن المتنوعة، ومهاراته المختلفة. وكان لِعَلَمِ البحرين وهو يُرفرف على قامته تلمُّظ خاص لاسم البحرين، وحب أرضها، وكما قال ليو تولستوي: «إذا وُجِدَ المضمون، انصاع الشكل» وهو حال نَصْب النخيل.
اليوم، النَّصْب «المادي» ليس موجوداً، بعد أن هُدِم. لكن وجوده الحقيقي موجود في وجدان مَنْ ألِفُوه في مجيئهم ورواحهم. وجوده الحقيقي ينبع من الأذرع التي بَنَته، وسَهَرَت على إتمامه، وساهمت فيه، لا لمقابلٍ ولا لشكرٍ، بل حباً في الوطن وأرضه وتاريخه. لذا، فالهدم ليس بقادر على محوه، فالأعزاء لا يموتون حين يواريهم الثرى، وإنما يموتون حقاً بالنسيان كما قال عبد الوهاب مطاوع، وهو أمر لن يتحقق أبداً مع نصْب النخيل.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4160 - الأحد 26 يناير 2014م الموافق 25 ربيع الاول 1435هـ
ههههه وآخيرا .. مقال عن البحرين
ههههه وآخيرا .. مقال عن البحرين .. لكن عن الحجر فمتى يأتي دور البشر
باختصار شديد
أعطت وزارة الثقافة المجلس البلدي عشرة عصافير فوق الشجر وأخذت من يدهم عصفورا
حقد عميق لمكون رئيسي يراد له ان يزال وهذا محال فنحن شعب حي
لا ولن تستطيعون إطفاء جدوة حب بلدنا فنحن شعب أوال شعبا حيا نشط لا يستسلم لواقعه ان كان مرا