تخجل الأرواح من الشبيه لها في الحساسية. حساسية نظرها واتصالها وتعاطفها مع الشبيه لها؛ دون أن تضع على رأس أولوياتها إقصاء المُغاير والمختلف عنها. ليس ذلك دورها؛ ولن يضيف لها شيئاً حين تنزع إلى ذلك. تلك هي الأرواح في صحَّتها وفاعليتها ومضمون وجودها الحقيقي.
الجسد وعاء. الروح هي معنى ومضمون ذلك الجسد. أزمات العالم اليوم تكمن في شحّ وندرة المعاني والمضامين. الأجساد على مدّ البصر. بعضها أوعية فارغة من دون معنى أو مضمون. شبح أرواح؛ بل أرواح ميتة إذا صح تعبير أن الأرواح تموت. هي ليست هناك. كل ما يراكم القُبح والعبث والسخْف والإقصاء والنفي هو خارج دائرة الحياة؛ ومن ثم هو خارج دائرة الروح وما يتصل بها.
لا يعاني الكوكب اليوم من شحِّ أجساد. إنه يعاني من فائضها، ويعاني من المضامين التي تترجم قدرة تلك الأجساد على الخلْق والحيوية وترتيب كل ما من شأنه أن يكون هذا الكوكب مغرياً على العيش فيه والانتساب إلى سكَّانه، والمجموع البشري الفاعل لا المُحْبَط والمحْبِط والمُدمِّر!
***
هل في الخراب روح؟ هذا العالم الذي يُتقن صنع البنسيلين إجادته صنع أسلحة الدمار الشامل لا يمكن أن يكون منحازاً إلى روحه وموضوع تلك الروح (الإنسان). في سباق محموم من أجل الهيمنة تحت عناوين الضبط والسيطرة والردْع. الردْع يتحول إلى حروب استباقية. كأنه؛ بل هو كذلك يسهر على بدائيته كلما فتح آفاقاً من المعرفة ومغاليق من المجهول واكتشف ما كان ضرْباً من الخيال محاولة التوصّل إليه والوقوف على تفاصيله.
هذا العالم الذي يسهر ويشتغل ويعمّق هندسة التفتيت لا يمكن - بأي حال من الأحوال - أن يكترث للروح؛ حتى روحه؛ أعني الذين يمتلكون مفاتيح إرجاع هذا العالم إلى سيرته الأولى؛ وكذلك الذين يقومون بتلك الأدوار بالوكالة؛ من دون أن يتفكّروا لحظة أنهم لن يكونوا استثناء من تلك الهندسة وشَرَهِها وانسلاخها عن الروح التي لا تحوي وخزة ضمير وومْضة التفات إلى تجنّب ما يُدخل في العار والانحطاط والتوازي مع أحط الكائنات إن لم يكن بلوغ الأدنى من انحطاطها!
***
ضياعاً يعيش هذا العالم. والإنسان رهين تيه يُعدُّ له من دون مقدّمات. هكذا تحاصره الفوضى باسم ترتيب الأولويات وإرساء النظام وتفعيل الضبط. هكذا تحاصره مخططات التفتيت والتدمير لأنه أصبح عبئاً؛ إما بسبب لونه أو دينه أو مذهبه أو ميوله أو حتى بفعل التوصُّل إلى قناعة أن هذا الكوكب بدأ يفيض، وأن حمولة زائدة يجب تفريغها وإرسالها إلى العدم. العدم الذي تقرّر طبيعته الذين يتوهّمون أنهم استووا على أرواحهم وبات عليهم أن يتولّوا مسئولية من لا أثر من روح يدل عليهم!
دون أن ننسى أنه محاصر من عدوّه (العدم) هذه المرة أيضاً تحت عنوان البحث عن وجوده وهويته ومركزيته بين ما عداه من بشر وأمم، ولو أدّى ذلك إلى كُلَف باهظة، ولا مكان للأخلاق هنا والضمير فالروح في غيابات لا أثر يدل عليها. ويحاصره الرعب والوساوس فيعمد إلى تلمُّس طمأنينة ولو على حساب خراب أكثر من «بصرة»!
***
كأن العالم يجد طمأنينته ومأواه وملاذه في هذا التخبُّط وحرق الخرائط التي يمكن أن يهتدي بها في هذه المتاهة. كأنه لا يريد أن يصل. يريد أن يكون رهْن فوضاه التي يتوهم تنظيمها لتفاصيل حياته. ينأى بنفسه عن الانسجام لأن فيه طبيعة وفطْرة، والشواهد والمآلات كلها تشير إلى الاتجاه المعاكس لتلك الطبيعة والفطْرة!
***
وفي الحديث عن الأرواح، ثمَّة في العالم اليوم من يجد مهنته ووظيفته ودوره المثالي في اقتناص الأرواح، وضع الفخاخ لها، ويعاني من مشكلة وحساسية أن يرى مُتحركاً ووثَّاباً. يولِّد لديه كل ذلك شعوراً بالتهديد والخطر على وجوده؛ أو في أقل تقدير، مزاحمته في ذلك الوجود، ويرى في ذلك خللاً لابد من إقامته ولو بمزيد من الفظاعات!
في المحصِّلة النهائية، في حضرة الخراب نحن. ولا روح خراب.
عالم تفكّر آلة قتله بالنيابة عنه. عالم يستدرج نفسه إلى النهايات المعْتمة. عالم ألِفَ غربته حتى في جلده، ليس مستعداً أن يواجه استحقاقات أدائه وترْك التصرف في مصيره وشئونه للذين لا يؤتمنون على حزْمة برسيم؛ لن يكون صادماً أن يكون أداؤه في الجهة النقيض لما يدل على آدمية المتحكّمين فيه وأنهم بأرواح، والأهم من ذلك كله: أنهم هنا يشغرون مساحة ولو كانت بحجم خِرْم إبْرة!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4160 - الأحد 26 يناير 2014م الموافق 25 ربيع الاول 1435هـ
جميل المقال . .
غذاء الروح الايمان