العدد 4158 - الجمعة 24 يناير 2014م الموافق 23 ربيع الاول 1435هـ

نشأة وتطور المجتمع البحريني في حقبة ما قبل الإسلام

لقد سبق أن ناقشنا في مقالات سابقة نشأة المجتمع البحريني وتطوره، منذ حقبة دلمون وحتى الفترة الهلنستية. ويبدو أن الفترة الأكثر ضبابية هي الفترة الهلنستية أو بالتحديد القرون السبعة التي سبقت ظهور الإسلام؛ وسبب ذلك أنه لم يعثر على مناطق استيطان تعود لتلك الحقبة إلا المدينة الخامسة في موقع قلعة البحرين، بينما عثر على دلائل ربما تعكس وجود استيطان كبير في جزيرة البحرين. من تلك الدلائل الزيادة السكانية؛ حيث استنتج Larsen أن سكان البحرين زاد بنسبة 50 في المئة تقريباً في الفترة الهلنستية مقارنة بالفترة الكشية (Larsen 1983، p. 196). بسبب زيادة الأراضي القابلة للزراعة ووفرة الماء فيها. كذلك، فقد عثر في موقع قلعة البحرين على كنز عبارة عن 292 قطعة من العملات التي ضربت في البحرين والتي تشير لوجود مملكة باسم هجر يرجح أنها قامت في البحرين وشرق الجزيرة العربية (بوتس 2003: ج 2، ص 733 - 751). إضافة إلى ذلك، فقد كشف عن العديد من تلال القبور التي تعود لهذه الحقبة متفرقة في العديد من مناطق البحرين. فأين أصحاب تلك المملكة؟ وأين سكن أصحاب تلك القبور؟. لا يعرف بالتحديد أين، ولكن يمكن التنظير وترجيح وجود أماكن سكنية تعود لتلك الحقبة، وعلى وجه الخصوص في مواقع قرى الساحل الشمالي (Larsen 1983، p. 84). ويرى Salles أنه ربما كانت هناك أماكن استيطان مرتبطة بكل مقبرة هلنستية (Salles 1999)، وبما أن تلك المقابر مرتبطة بقرى حديثة؛ فهذا يعني أن مواقع الاستيطان تلك هي التي كانت تمثل القرى القديمة التي طمرت تحت أساسات القرى الحديثة القريبة من تلك المقابر الهلنستية ما يدل على وجود امتداد آثاري لتلك القرى (وهذا ما سوف نناقشه بالتفصيل في الفصول القادمة).

العرب البائدة والنظام الاجتماعي

يذكر جواد علي في كتابه «تاريخ العرب قبل الإسلام» أن أول من سكن البحرين من العرب هم قبائل من العرب البائدة مثلتها طسم وجديس وجاسم (علي 1993، ج1 ص 295 و339 و345). والعرب البائدة تم تعريفها بأنها قبائل من شمال الجزيرة العربية تحضرت، وهم من عرفوا باسم النبط، وكتبت لغتها بحروف آرامية أو بحروف المسند وعرفت هذه الكتابات أو النقوش بأسماء مثل: الثمودية والصفوية واللحيانية Macdonald 2008)، (Woodard 2008، p. 2).

وتتزامن الحقبة الهلنستية في البحرين مع فترة استقرار النبط في شمال الجزيرة العربية وبلاد الشام وبروزهم على الساحة. وهناك عدة دلائل، أشرنا لها في مقالات سابقة حول الفترة الهلنستية في البحرين، تشير إلى استيطان جماعات عربية تتحدث باللغة العربية الشمالية وقد عملت هذه الجماعات في الزراعة والتجارة وقد عرفت هذه الجماعات التي سكنت شرق الجزيرة العربية باسم النبط أيضاً وعلى هذا الأساس وجد الربط بين تاريخ استقرار النبط في شمال الجزيرة العربية والاستيطان في شرق الجزيرة العربية، وقد استمر وجود نبط البحرين حتى مجيء موجات جديدة من هجرات القبائل العربية وأخذوا في الاندماج معهم، وقد ورد في معاجم اللغة (انظر لسان العرب على سبيل المثال) في مادة «نبط» الجملة الشهيرة التي تصف سكان البحرين القدماء وهي «أهل البحرين نبيط استعربوا». وقبل ظهور الحروف العربية، كانت هذه الجماعات تكتب بلغة عبارة عن مزيج بين العربية الشمالية والعربية الجنوبية؛ فقد كتبت لغتها العربية بحروف اللغة العربية الجنوبية وبالتحديد الخط المسند وليس بالحروف الآرامية كما فعل نبط شمال الجزيرة العربية، وقد عرفت هذه اللغة باسم الحسائية أو الأحسائية وقد اعتبرت من اللغات العربية البائدة (Macdonald 2008) (قزدر وآخرون 1984م). وقد تم العثور على العديد من النقوش في شرق الجزيرة العربية والتي كتبت بهذه اللغة (أي لغتها عربية شمالية كتبت بالخط المسند) والتي يرجع تاريخها إلى 350 ق. م. – 100 ق. م. (بوتس 2003: ج 2، ص 771).

وبحسب تاريخ النقوش الحسائية يتضح أنه منذ القرن الرابع قبل الميلاد استوطنت قبائل عربية شرق الجزيرة العربية وهذه القبائل تتحدث لهجة عربية شمالية وقد عاشت هذه القبائل بنظام اجتماعي قبلي – حضري أي أنها استقرت وعملت في المهن الحضرية لكنها في الوقت نفسه حافظت على التنظيم القبلي لها واستطاعت أن تأسس مملكة مستقلة هي مملكة هجر. وقد تم التعرف على النظام الحضري – القبلي لهذه الجماعات من خلال النقوش الحسائية التي عثر عليها في شرق الجزيرة العربية، وهي اللغة ذاتها التي استخدمت للنقش على العملات التي قامت هذه الجماعات بضربها واستعمالها في مملكتهم التي شملت البحرين وشرق الجزيرة العربية.

النظام الاجتماعي من خلال النقوش الحسائية

غالبية النقوش الحسائية التي عثر عليها عبارة عن شواهد قبور وبعض النقوش كانت قد نقشت على عملات نقدية (قزدر وآخرون 1984) وهذا يؤكد أن هذه الجماعات العربية التي سكنت المنطقة كونت كياناً سياسياً تولى السلطة في فترة معينة من الزمن ويؤكد ما رجحه الباحثون أن مملكة هجر التي سبق الحديث عنها والتي ضربت عملات تحمل أسماء ملوكها قامت في شرق الجزيرة العربية وأن كيان هذه المملكة كان جماعات من عرب الشمال. ومن خلال تحليل الأسماء التي وردت في النقوش الحسائية التي تمثل شواهد قبور يستدل على وجود نظام قبلي داخل الثقافة المدنية وهي ظاهرة عرفت في الثقافة السبأية في جنوب الجزيرة العربية وكذلك في المدن والقرى العربية في الحجاز وغيرها وذلك في حقبة قبل الإسلام وبعده (قزدر وآخرون 1984). ومن هنا يتضح زيف تقسيم البعض مجتمع جزيرة العرب ما قبل الإسلام لمجتمع قبلي مبني على النسب ومجتمع مدني؛ حيث تستطيع جماعة مستقرة مسيطرة على السوق أن تتحكم بالقبائل كما أنه يحتمل أن تستقر قبيلة مسلحة مئات السنين في المدن والقرى من دون أن تفقد تنظيمها القبلي الأساسي، وتزودنا النقوش الحسائية بحالة وثيقة الصلة بالموضوع تتعلق بمجتمع قبلي يحيا في شروط حضرية وأحياناً مدينية كما في ثاج في شرق الجزيرة العربية والتي تتشابه إلى حد ما مع مدينة تدمر (بوتس 2003: ج 2، ص 770 - 771).

أماكن استيطان الحقبة الهلنستية

مما سبق يمكن استنتاج أن البحرين كانت في الحقبة الهلنستية جزءاً من مملكة هجر، وقد استوطنتها قبائل عربية من العرب البائدة التي تحضرت وعملت في الزراعة والتجارة، وانضم إلى تلك الجماعات قبائل عربية جديدة انصهرت معها وحافظت على النظام القبلي – الحضري. ويبقى السؤال، أين أماكن سكنى هذه الجماعات؟ وكل ما كشف عنه مقابر تعود لتلك الحقبة؟. هل هي ذاتها مناطق السكنى في الحقبة الإسلامية؟. هذا ما سنحاول الإجابة عنه في الفصول القادمة.

العدد 4158 - الجمعة 24 يناير 2014م الموافق 23 ربيع الاول 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً