أبداً هي القصَّة الأزلية، تعيد وتكرر نفسها: أناس يؤمنون بقضية فيشقون ويضحّون وقد يموتون، ثم يتبعهم أناس أخر من المتفرجين يحصدون ويأكلون ما زرعه أولئك المضحُّون.
تعود بي الذاكرة إليك ياكولونيل أورليانو بونديا، يا بطل رواية الكاتب الكولومبي جبرييل جارسيا ماركيز الشهيرة «مائة عام من العزلة». أتخيّلك وأنت مُطالبٌّ، بعد عشرين سنة من عشرات المعارك التي خضتها أنت والفقراء والمثقفون من شعبك في سبيل شعارات الحرية والعدالة والكرامة، بعد أن مات الألوف وتركوا الأرامل واليتامى... بعد كل ذلك وجدت نفسك مطالباً بأن توقّع على وثيقة التنازل عن كل الشعارات التي أعطيت أنت ورفاقك عشرين سنة من حياتكم لتحقيقها.
سألت ياصديقي الكولونيل وفد السياسيين الانتهازيين والمحامين المخادعين الذين جاءوا لأخذ توقيعك: لماذا هذا بعد كل تلك التضحيات؟ وجاءك الجواب كشراب الحنظل بأن حزب الأحرار الذي دعا للثورة قد اتفق مع حزب المحافظين الذي قاوم الثورة، على تقاسم السلطة بشرط التنازل عن شعارات الثورة.
بعدها ياصديقي الكولونيل سألت سؤال البراءة والعفّة والصدق مع النفس: أمن أجل السلطة إذاً كانت ثورتنا؟ ووقّعت يابطل الوطن والدموع تملأ خياشيمك وانسحبت إلى عزلتك الطويلة.
اليوم، وأنت في قبرك دعني أريح روحك التي لازالت تتعذّب بأحزان ذلك العبث، وأخبرك بأن ما جرى لك ولرفاقك يحدث أمام أعيننا ألف مرة في طول وعرض أرض ثورات وحراكات الربيع العربي. فالنخّاسون الذين باعوك وباعوا رفاقك وثورتكم ليتربّعوا على كراسي الحكم، والليبراليون الذين ناصروا ثورتكم وشعاراتكم ثم ما لبثوا أن شكَّكوا الناس في جدواها، والمحافظون من رجالات نظام الاستبداد والنَّهب والسرقات الذين خرجوا من الباب ليدخلوا من الشبّاك ونجحوا في غرس الشكّ والبلبلة في عقول البسطاء من شعبكم باسم المحافظة على الأمن والسّلم الأهلي وعودة السوّاح... جميع هؤلاء ياصديقي الكولونيل لهم من يماثلهم، بل ويبزّهم في انتهازيته وكذبه، في أرض ثورات وحراكات ربيع العرب.
يومياً نراهم يتربّعون على شاشات التلفزيون ويلقون المواعظ ويتكلمون عن واقعية الذل وعيش الجرذان. يومياً يطالبون بموت الأحلام والآمال ووأد شعارات البراءة والعفة وحقوق العباد. يومياً يساومون مع هذا المستبد أو تلك الجهة الأجنبية ليباركوا لهم اقتسام السلطة. يومياً يجري إقناعنا بأن الدماء قد روت تربة العرب والألوف قد دخلوا السجون وعذّبوا والأمهات بكين على استباحة أولادهم وبناتهم فقط من أجل أن يقتسم البعض السلطة مع سرّاق السلطة. ولذلك يا صديقي الكولونيل فإنك لو بعثت حياً فإنك لن تشاهد ولن تسمع في أرض مصر وسورية وتونس والعراق واليمن وفي كثير من بقاع أرض العرب التي تموج بالأحداث وبالهيجان، لن تسمع إلا الحديث عن السلطة، لكأن حناجر الملايين لم تصرخ منذ ثلاث سنوات بالحرية والكرامة والعدالة وإنما أرادت فقط استبدال سلطة تلبس قناعاً بسلطة تلبس قناعاً آخر.
فلا تحزن يا صديقي المسجى في قبر الصّمت، بعد عزلة الإنكسار والذهول أمام بلادة الإنسان، فإنّ قدر الثوار الأتقياء الأنقياء أن يعدموا أو ينتهوا في أقبية العزلة الصامتة، بينما يغنّي ويرقص أدعياء الثورات أمام الحشود المخدوعة وهو يحتفلون بالنّصر الكاذب.
لكن هل حقاً أن قدر الإنسان أن يرسم ثم يمحو، أن يثور ثم يستسلم، أن يحلم ثم يصحو؟ إنه قدر بائس لا يمكن أن تباركه السماء ولا أن تقبله أرواح الذين ضحُّوا وماتوا، وهي تتعذب بانتظار إنصافها وإكرام حياتها وموتها.
أذكر يا صديقي أنك بعد الفشل الأول حاولت أن تشعل نيران الثورة من جديد، لكن لم يستجب المتعبون المستكينون لحياة الزبونية. وأعلم أيضاً يا صديقي بأن شباب ثورات وحراكات الربيع العربي لن يقبلوا مصيرك في العزلة وفي الموت البائس، إذ أن للثورات ألف طريق وطريق، وللثوار ألف مصير ومصير. لقد يئست ومتّ موتة الإنكسار، وسيتفاءل آخرون فيعيشون عيشة الكبرياء والإنتصار.
إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"العدد 4157 - الخميس 23 يناير 2014م الموافق 22 ربيع الاول 1435هـ
لا للتنازل
لا للتنازل عن المطالب الحقة
شكرا
شكرا يا دكتور على تذكير البشر بالانسانيه المفقوده
شكرا
صباح الامل صباح التفائل والعزه والكرامه والسلام والنصر ان شاء الله شكرا يادكتورنا العزيز
نعم هذا هو الحاصل يا قائدنا الفذ
وأضيف ,,,,, من بين الذين نظنهم يعملون من أجل قضية ما، تكتشف بأن وجودهم في الخندق الواحد هو لأجل مصالخ شخصية في المقام الأول ... ويحاربون من كان بصفهم اذا ما دعت الضرورة لابتعادهم..
مثال على ذلك، ممثلي العمال المتقاعدون الذين يصروت على بقائهم ممثلين للعاملين برغم غياب حتى المنطق في ذلك.