بعد أيام قليلة على الانقلاب العسكري في تشيلي الذي قاد الجنرال الطاغية أوغوستو بينوشيه إلى السلطة، قُتل الشاعر بابلو نيرودا، صديق الرئيس المخلوع سلفادور إليندي.
من بين الروايات ما يشير إلى أن نيرودا كان ينوي مغادرة البلاد، وقُتل على يد نظام بينوشيه، في محاولة منه لمنع أن يتحوّل نيرودا إلى رمز للمعارضة في الخارج.
في الوقت نفسه كان ثمة من هو محسوب على الكتَّاب وبعض الشعراء الذين إن لم يساندوا بينوشيه، اكتفوا بمديح الصمت بشكلٍ مخْزٍ، وهو صمت بالطبع لم يصنع حياة بقدر ما صنع موتاً معايناً لأمة تُراقب أنفاسها، ويختطف شبابها ومعارضوها، وتُعد لهم طقوس مجازر بالجمْلة كشف الزمن مواقعها والقبور الجماعية التي كانت مسرحاً للأداء!
***
«يحْرج» المديح الشاعر حين يكون بثمن معلوم أو مجهول. و«يجرحه» أن الناس قد وضعوا ذلك في صدارة السيرة؛ وخصوصاً حين يكون المديح بعمى يرى الأوسمة ولا يرى الدم الذي وراء الأوسمة.
الشعراء مخلوقات إشكالية. إشكالية بمعنى الأمزجة التي لا تستقر فيهم وتشكّل وعياً متحركاً لا يعرف الهدوء والثبات، يصيبون كثيراً ويخطئون أكثر. وظيفتهم الاستبصار لا تقديم الحلول والوصفات الجاهزة. الشاعر لا يبني. يقترح أشكالاً من البناء صباحاً وينسفها بعد ذلك. يبني ليهدم كي يبني ما يعتقده أنه الأجمل والأقرب إلى مزاجه ووعيه المتحرك أيضاً!
***
الشعراء كغيرهم أيضاً ممن يصنعون جماليات في تراكم قبْح استقرَّ، ويرى فيه كثيرون جمالاً، أو ربما ما بعده بمراحل. على رأس تلك الجماليات أن تكون أنت لا سواك. أن تنظر بعينك، وأن تتصل بالعالم بحواسك لا بحواس مستعارة. البعض يريد لك أن ترى بعينه، وأن تتصل بالعالم بحواسه وضمن معايير وجرعات هو يحدِّدها وينتقيها، وتبعاً لموضوع الاتصال أو الاختبار.
تبقى لديهم (الشعراء) خاصية أن سلاحهم كل ما يستفزّ ويستنطق ويحرّض على الحياة. يستفز بمعنى أن يقدّم لك قيمةً أنت تراها وتعاينها وتعايشها ولكنك تتعمّد تأجيلها أو عدم الاعتراف بوجودها أساساً.
يذهبون إلى اللغة لا باعتبارهم طالبي مُنَح ورد اعتبار لهم لمخاطبة العالم. يذهبون إليها باعتبارهم أكثر الناطقين قدرة على التحدّث حتى باسم الأشياء، بقدرتهم على النفاذ وما بعد الرؤية، لتصبح بعد ذلك القدرة على التحدث عن المخلوقات أمراً فيه الكثير من كشف المستور ولا مكان لديهم لستر المكشوف. في ذلك تواطؤ لا يجيدونه إذا التحموا بأرواحهم كما يجب.
***
في العالم اليوم وبيننا، شعراء ممن لا يتردّدون في أن يغذّوا كل ما من شأنه الانشغال عنهم. الانشغال في التفاهات التي يحيون، ولو على حساب مصائر البشر الذين يعيشون معهم ويشاركونهم المكان. المشاركة في المكان لا تثبت بالضرورة أن مُشتركاً في الخلْق والحس يجمع بينهم. بيننا شعراء وفي العالم اليوم من لا يهدأ لهم بال ما لم يقفوا على الأطلال. أطلال المصائر وأطلال الأرواح وأطلال القيم وأطلال كرامة الإنسان وحقوقه؛ لا ليندبوا ويرثوا هذه المرة؛ بل ليشمتوا ويتشفّوا، وسيشعرون بغصّة لأنهم لم يكونوا جزءاً من المشهد يوم انهمر الدم، واشتغلت الآلة نسفاً وخسفاً لتفاصيل الناس ومصائرهم وحيواتهم!
في العالم اليوم شعراء يمارسون واقعاً وأداء دور جنرالات من دون بزة عسكرية ومن دون نياشين يمكن رؤيتها عن بعد أو قرْب. بقدرتهم على استنطاق كل شر وتحريضه وتحفيزه والمطالبة بالفائض منه كي يشيع ويدوْزن مصالحهم، ليتفرّغوا للحياة وهي خالية من القيمة التي وجدوا لاستبصارها وانتشالها من حال الجمود إلى حال الفوران والحركة.
الشعراء الذين يُغرون ويحرّضون على مزيدٍ من القتل والموت والخراب، لا يليق بالعالم أن يكونوا من سكّانه. من مصلحته أن ينتهي، كذلك الأمر بالمخلوقات التي هي على حلْف لا ينقطع مع أوبئة أنفسهم والعُقد التي لا تنتهي!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4156 - الأربعاء 22 يناير 2014م الموافق 21 ربيع الاول 1435هـ