لا تزال إشكالية العلاقة بين الأديان تؤرق الباحثين وترهق السياسيين وصناع القرار خصوصاً في الدول أو الأقاليم متعددة الديانات والأعراق. وهذه الإشكالية المطروحة اليوم بإلحاح ليست بدعاً من الأفكار ولا نتاجاً لثورة الحواسيب والانفجار المعرفي، وإنما هي قديمة قدم التاريخ والأديان، متجددة بتجدد أدوات البحث ودواعيه، متغيرة بتقلب موازين القوى.
وطرح هكذا قضايا في العالم الإسلامي برهان آخر على بروز نخبة من أتباع الأديان ترفدها إرادة سياسية، ترى الخير كل الخير في اللقاء على قواعد متينة للتعايش من أجل السلام بين أتباع الأديان والمذاهب.
ولا يتأخر مركز عبد الرحمن كانو الثقافي، كعادته، عن ملامسة مثل هذه القضايا الحارقة وطرحها على الملأ للنقاش؛ فقد نظم يوم الثلاثاء الرابع عشر من يناير 2014 بالتنسيق مع جمعية البحرين لتعايش وتسامح الأديان ندوة ثقافية تحت عنوان «تعايش الأديان وأثره على السلم الوطني»، تحدّث فيها على التوالي كل من الشيخ إبراهيم مطر والقس عزيز هاني والنائبة نانسي خضوري. ولعلّ مثل هذا اللقاء الثقافي والتلاقي بين أتباع الأديان (الإسلامي والمسيحي واليهودي) يؤكد عراقة البحرين في احتضانها منذ القديم وإلى اليوم، تحت رعاية جلالة الملك المفدى حمد بن عيسى آل خليفة حفظه الله، وفي كنف السلام والتعايش المدني كل الأطياف الدينية.
لكن لا يعني ذلك بالضرورة رضى النخب الفكرية والدينية عن مثل هذه اللقاءات والمبادرات الجامعة؛ إذ لم يمرّ اللقاء دون أن يحرّك سواكن العالم الافتراضي والعالم الحقيقي: فبقدر ما تحرّك إعلام الشبكة العنكبوتية معيداً إثارة العلاقة بين الأديان، تنادت بعض المنابر الدينية والثقافية للرد على هكذا مبادرات تسعى إلى التقارب والتآخي بين الأديان بالرفض أو التوجيه والتصحيح وتعديل وجهة النظر إلى المسألة من زاوية نظرهم التي يعتقدون طبعاً صحتها مقابل خطأ غيرها.
وقد لاذ أصحاب هذا الرأي الإقصائي بالتاريخ القريب والبعيد، مستحضرين منه صوراً تلبّست فيها أيادي أصحاب كل ديانة بأعمال عنف وقتل غير مبرر، كما استندوا إلى النصوص الدينية وتأويلاتها الداعية إلى تقديم قتل المخالف دينياً بدل الحوار معه ودعوته بالتي هي أحسن. وفات هؤلاء وأولئك أن استحضار هذه الصور المؤلمة واسترجاع مآسي التاريخ لا يزيد الشرخ إلا اتساعاً بين أتباع الأديان.
ولكن بالمقابل يستحضر دعاة السلام من كل دينٍ النصوص المقدسة التي تؤكد مناصرتها للسلام ولم يفتهم التمييز المنهجي في التحليل بين مبادئ الأديان وتأويلاتها وتطبيقاتها، هذا إن سلمت بعض النصوص المقدسة من التحريف طبعاً.
إن الجهود الدولية اليوم تبذل حثيثاً وبرعاية الأمم المتحدة والعقلاء والحكماء في حكومات كل الدول، من أجل إحلال السلام والتعايش بين أتباع الأديان؛ إذْ لا تخلو اليوم دولةٌ من تعدد ديني سواءً أكان أصيلاً تاريخياً فيها كحال كثير من دول الشرق الأوسط، مهد الأديان؛ أم طارئاً بحكم عوامل الهجرة. ولقد تعايش أتباع الأديان بسلام في معظم فترات التاريخ؛ فقد عقد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم مثلاً العهود والمواثيق مع اليهود وتعامل الصحابة والسلف الصالح مع المسيحيين، لا بل مرّ الفاتحون المسلمون على آثار الحضارات غير التوحيدية سلاماً سلاماً، فلم يحطّموا تماثيل الفراعنة ولم يكسروا أو «يفجروا» المعابد أو الكنائس... بل تركوا هذه الآثار بسلام، لا شاهدةً على عظم تلك الحضارات والديانات غير التوحيدية وإنما شاهدة على عظمة تسامح المسلمين الأوائل وإيمانهم بالعيش المشترك مع المختلف دينياً حتى وإن كانت عقيدته وثنية.
إنه من الظلم الكبير للبشرية أن يتناحر أبناؤها على خلفية المعتقدات الدينية النابعة من مصدر واحد، لذلك تنادت الأقلام والأصوات بالدعوة إلى التسامح والتعايش والتصالح والتحاور والتآخي والتقارب والتثاقف والتفاهم والتلاقي والتعاون وهلمّ جراً من المصطلحات المتضامنة والمتناصرة في التعبير عن روح العلاقة بين الأديان، أمّا العلاقة بين أتباع الأديان فتستوجب فرزاً ضرورياً يقوم به المختصون في علم الأديان المقارن وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، وهو ما قد يساعد على مزيد الدقة في استخدامها؛ إذْ إن مصطلحاً مثل تقارب قد لا يُرى فيه الدقّة المتناهية كون عقائد هذه الأديان وإن نبعت من معين واحد فهي لا تتقارب، ومن ثمّة يؤكد البعض على ضرورة العمل بروح الآية الكريمة «وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا» (الحجرات، 13) ذلك أن التعارف يعني التشارك في معرفة البعض للبعض الآخر، ولا تكون المعرفة إلا بالتحاور، ولا يكون التحاور إلا باعتراف هذا بذاك لا بإقصائه.
إن التعايش بين أهل الأديان المختلفة ينبغي أن ينبني على أساس متين من الثقة والاحترام المتبادلين، وينطلق من الرغبة في التعاون لخير الإنسانية في المجالات ذات الاهتمام المشترك وفيما يمس حياة الإنسان. إن أساس التعايش هو التعاون بين المؤمنين في الأرض على ما فيه الخير والصلاح للإنسانية جمعاء خطوة في سبيل تحقيق السلام العالمي، ويمكن أن يأخذ هذا التعاون أشكالاً بسيطةً كالتعاون في المحافظة على سلامة البيئة، وفي محاربة الأمراض الخطيرة، وفي القضاء على التفرقة العنصرية، وكذلك محاربة الإلحاد والانحلال الخلقي وتفكّك الأسرة وانحراف الأطفال ومقاومة كل الآفات والأوبئة التي تتهدّد سلامة كيان الفرد والمجتمع أو تضر بالحياة الإنسانية.
إن التعايش بين أتباع الأديان إن لم يكن الهدف منه خدمة الأهداف السامية التي تسعى إليها الأديان، ضاع المعنى الإيجابي منه وصار إلى الدعاية واللجاجة، أقرب منه إلى الصدق والتأثير في حياة الإنسان المعاصر.
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 4154 - الإثنين 20 يناير 2014م الموافق 19 ربيع الاول 1435هـ
جميل جداً
. وفقكم الله واصلح حال المسلمين
جميل التمييز بين أتباع الأديان والأ+ديان
شكرا على المقال
ما بين أتباع الأديان... لقاء فحوار فَتَعايش
موضوع جميل في زمن غير جميل
كل بدعه ضلاله لكن لا تتبعوا الضن ففيه إثم!
اللّهمّ صلي وسلم وزد وبارك على محمد وآله كما صليت وباركت وترجمت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد! فيقال ديان الدين رب العالمين ولا دين عند الله إلا الإسلام بينما من البدع أن من يصدق بعيسى عليه السلام لا يصدق بمحمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام! فمتى ما كان الرب واحد كان جميع الأنبياء والمرسلون من عند الله وهذا لا يحتاج بينه ولكن كيف يصدق بداوود ولا يصدق بمحمد؟ ومن أين جائت الأديان إذا ما كانت السماء واحده؟
أحسنت صدقت
إن التعايش بين أتباع الأديان إن لم يكن الهدف منه خدمة الأهداف السامية التي تسعى إليها الأديان، ضاع المعنى الإيجابي منه وصار إلى الدعاية واللجاجة، أقرب منه إلى الصدق والتأثير في حياة الإنسان المعاصر.