قرأتُ مقالاً لشاب أميركي بدأه بقصة عن مُدربة تمثيل تستيقظ كل صباح فتُعد القهوة ذاتها وتأكل كعكة صغيرة. تلبس ثياباً شبيهة بثياب اليوم الماضي، تخرج من شقتها وتركب المصعد ذاته، تخرج من العمارة وتتجه إلى نفس زاوية الشارع كل يوم، تلوح لسيارة أجرة، تستقلها متجهةً إلى المسرح، تدخل من الباب، تعتلي الخشبة، تنظر إلى طلبتها، ثم تتخذ أول قرار في يومها عندما تبدأ بتدريبهم.
لا تتخذ هذه المرأة أي قرار حيوي قبل دخولها المسرح، تماماً مثلما يفعل باراك أوباما كل صباح في البيت الأبيض، حسب كاتب المقال، الذي يستيقظ في السابعة، يدخل الصالة الرياضية في السابعة والنصف، يبدأ تمرينه اليومي حتى الثامنة والنصف، يستحم ثم يلبس إحدى بذلتين: زرقاء أو رمادية. حتى أن زوجته ميشيل تسخر منه أحياناً مستنكرةً كيف صارت حياته روتينية إلى هذا الحد!
إلا أن الرئيس الأميركي يُدرِك أنه يحتاج إلى الاحتفاظ بجودة قراراته للمهام الكبيرة، فللإنسان طاقة محدودة في اتخاذ القرار، تماماً كما هو حاله في التمارين الرياضية، وعليه أن يدخر قوته للمراحل والمواقف الصعبة. ولكي يُحقق أحدنا ذلك فإنه يحتاج إلى أن «يُرَتْوِنَ» أكبر قدر من الأعمال في حياته حتى يتفرّغ للمهمة منها. قد تبدو كلمة «روتين» سلبية، وهي كذلك إذا ما تعلقت بإجراءات العمل الحكومي، ولكنها ليست كذلك على صعيد الحياة الشخصية.
فمع كثرة انشغالنا، ولشدة اتصالنا ببعضنا البعض واطلاعنا على كل ما يدور في العالم من خلال وسائل الاتصال فائقة السرعة، صارت حياتنا متداخلة جداً لدرجة أنك تعرف كل ما هو جديد في عالم السياسة والتكنولوجيا والموضة والغذاء وغيرها خلال عشرين دقيقة فقط وأنت تتناول طعام الإفطار. ومن دون أن تشعر، تدفعك حاجتك البشرية إلى اتخاذ موقف، أي قرار ما، تجاه كل هذه الأشياء. فتؤيد موقف الدولة الفلانية، وتحب الوجبة الفلانية، وتُبغض هذا الحذاء وتُحب ذاك، وتعترض على النسخة الجديدة من تطبيق «تويتر» في هاتفك... وغيرها من قرارات تتخذها بشكل مُرهِق ولا إرادي!
يحكي باري شوارتز، صاحب كتاب «أزمة الاختيار»، قصة شركة عملاقة عرضت على موظفيها خطة تقاعد واحدة، فأقبل كثير منهم للاشتراك فيها، ثم قامت الشركة بمنح الموظفين عشر خطط للاختيار بينها، فنزلت نسبة المشاركة إلى اثنين في المئة، ومع ازدياد عدد خطط التقاعد، التي اعتقدت الشركة بأنها من خلال تنويعها فإنها تعطي موظفيها فرصاً ومميزات عديدة، أخذت نسبة اشتراكهم تقل شيئاً فشيئاً، والسبب هو أنهم أصبحوا أمام أزمة اتخاذ عدة قرارات، بعد أن كان قراراً واحداً! عندها، يقول الموظف في نفسه لا إرادياً أيضاً: «سأفكر في الموضوع حتى الغد»، ويستمر يفكر فيه لعدة سنوات!
إن إحدى التحديات التي يواجهها الإنسان حين يكون مضطراً لاتخاذ قرارات كثيرة هي خسارته للمُتعة الآنية، فتجد الذي يلعب الغولف، مثلاً، يُفكر في عمله وهو في وسط الملعب، وتجد مَن يعمل في مكتبه يُفكّر في لعبة الغولف، وذلك لأن عقولنا تبرمجت على التفكير المستمر لاتخاذ قرارٍ ما حول شيءٍ ما!
إن الحياة عبارة عن مجموعة قرارات، وجودة حياتك تعتمد على جودة قراراتك، ولكي تحيا بسعادة، توقف أولاً عن البَتِّ في كل شيء حولك: في نوع الأجبان التي تشتريها للبيت، وفي عدد صناديق الماء التي يجب أن تشتريها كل شهر، وفي نوع المطعم الذي ستتغدى فيه مع زملائك اليوم، وفي لون حذائك، وساعتك، وكل الأشياء الهامشية في حياتك... وابدأ بالرّتونة. أَحِل الأشياء غير المهمة في حياتك إلى روتين. أنا شخصياً أضعها في قائمة «الطيار الآلي Auto Pilot» حيث لا أفكّر بها أبداً، تماماً مثلما يفعل الطيار عندما يُقلع بالطائرة، فمهمته الحقيقية ومسئوليته الكُبرى تكمن في الإقلاع والهبوط.
نحن نبحث عن المنصب، والمسئولية، ونؤسس الشركات، ونفتح المحلات، ونفعل أشياء كثيرة لكي نجني مالاً أكثر، ونعيش حياة أفضل. هذا ما نعتقده، وهو حقٌ مشروع ومن حق كل إنسان أن يطمح ويحلم، ولكن ما إن نصل إلى مرادنا فإننا، غالباً، ندفن أحلامنا ونَئِدُ سعادتنا بتجاهلنا للأشياء الحقيقية ذات القيمة الإنسانية العميقة في حياتنا.
اسأل نفسك الآن: متى خرجت من بيتك بدراجة هوائية؟ متى بدلت مصابيح سور البيت؟ متى ذهبت مع الأطفال، أو لحالك، إلى دُكّان الحي ذي الخيارات المحدودة؟
أَحْزَنُ عندما أسمع شاباً يقول: «أريد أن يكون لي معرض تصوير»، وفي غرفته أفضل الأدوات لفعل ذلك، ولكنه مشغولٌ بالأعمال الجانبية، كالوظيفة مثلاً، ليمضي عمره دون أن يفعل ما يُريد أو يمارس ما يُحب. اسأل نفسك كل صباح: ما مُهمّتك الحقيقية اليوم؟ وبعد أن تحدّدها بوضوح، تجاهل كل الأشياء الأخرى، بدءاً بالتفكير في ما ستلبس، وانتهاء بالتردد في اختيار طريقك إلى عملك، ولا تجعل حياتك حقل ألغام، مليئة بالمفاجآت وبالقرارات العفوية.
لكي تُحسن الرّتْوَنة، عليك أولاً أن تعرف مَن أنت، ماذا تُحسن، ما هي نقاط قوتك، وماذا تُحب أن تفعل حقاً.
إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"العدد 4151 - الجمعة 17 يناير 2014م الموافق 16 ربيع الاول 1435هـ
من مسائل جحا لكن المعنى بيان!
يقال ما أدراك أي ما الشيء الذي جعلك تدرك المعنى من وجود الأشياء حولك؟ فقد لا يلاحظ البعض أن الدنيا لم تخلق إلا ليعبد الله بينما اليوم يمكن القول أن أكثر الناس بين الساهون والغافلون ويقال يا غافلين لكم الله. فقد ضرب الله للناس الأمثال لعلهم يفقهون بينما الملاحظ أن من الناس قد لا يعرف ولا يعلم لكن يقال مجازا أو تجاوزا أنه فقيه. فكيف يمكن معرفة الفقيه من العالم؟ وكيف نعرف العارف من غير المدرك لسبب وجوده في الحياة؟ أو كيف نبين أو نوضح أن أكثر الناس لا يعقلون؟
الرتونة حلم اللحالمين
مقال جميل ، وعملي ، فقد أجاد الكاتب وضع العبارات متسلسلة في مكانها، وأمتع القارئ بمعلومات، من خلال عرض شيق، وخيرة دقيقة فيما تمس الحياة والروتين اليومي لأغلبنا.. عبد الأمير زهير،،