العدد 4150 - الخميس 16 يناير 2014م الموافق 15 ربيع الاول 1435هـ

جاسم بوشهري... وداعاً

عبدالله مطيويع comments [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

أرقد بسلام يا جاسم بوشهري فإنك حتماً في عداد من صدقوا في التزامهم بمبادئهم، وأخلصوا لها، وأعطوا أكثر مما أخذوا، ولله ما أعطى... ولله ما أخذ.

في أحد الأيام كنت وعبدالرحمن النعيمي، نزور قبر الرفيقة ليلى عبدالله فخرو، وجاسم محمد فخرو، والشهيد سلطان حافظ والعم إبراهيم محمد حسن فخرو، حتى توقفنا عند قبر الشهيد محمد بونفور، وبدأت بمداعبته بالمزاح الذي يعرف الرفاق المقربون جداً، أنه إرث سجون البحرين. قلت له: أبا أمل! أنا سأموت قبلك، فإذا مت قبلك أوصيك أن تدفنوني عند قبر الشهيد محمد بونفور»... فابتسم وقال: (فال الله ولا فالك)، اترك عنك سيرة الموت. لكن إذا أنا مت قبلك فوصيتي أن أدفن عند قبر بونفور. وواصلنا المشي بين الأجداث، حتى علق طرف ثوبي بشاهد أحد القبور، فمد النعيمي يده وأمسك بيدي.

وأكمل أبو أمل مزاحه الجميل قائلاً: مطيويع يتعثر بثوبه بسبب شاهد من شواهد القبور! لابد أن صاحب القبر هذا يترصّدك من زمان ولم تسمح له الفرصة لكي يرسل لك رسالة ليقول فيها ما قاله أبو العلاء المعري أو عمر الخيام عن فلسفة الموت والحياة. فأجبته: عمر الخيام في حديثه عن الموتى والقبور، قال إذا مشيت في المقبرة:

فامشِ الهوينا إن هذا الثرى

من أعينٍ ساحرةِ الأحورار.

فثبّت أبو أمل نظارته عل أنفه، وبحلق في وجهي، وفهمت ما سيقول. فأضفت: عمر الخيام فارسي وأبو العلاء عربي من معرة النعمان، وهما شاعران فيلسوفان يلتقيان كثيراً في فلسفة الموت والحياة، وكم حفظت من أشعار الخيام عن الموت، وما يبقى للإنسان من عمل صالح. فقال النعيمي: (صاير لنا شاعر اليوم)! هات ما عندك. فقرأت عليه شطراً من رباعيات الخيام التي حفظتها منذ زمن طويل:

الدرعُ لا تمنع سهمَ الأجل

والمال لا يدفعه إن نزل

وكل ما في عيشنا زائلٌ

لا شيء يبقى غير طيب العمل

في إحدى جلساتنا الصباحية في جمعية «وعد»، كنت أمازح الأخ الراحل العزيز جاسم بوشهري، وقد كان فيه الكثير من الفكاهة إذ يكرّر كل حين عبارة (أصك عليه)، وأفحمه بعبارات شعبية بائدة كان أهلنا يلقنوننا إياها وأشهرها كانت: «عرب عرب فوق الفنّة (مقدمة السفينة) تدربو (تدحرجوا) وراحوا الجنة». «عجم عجم فوق الدار تدربو وراحوا النار»! فردّ جاسم مازحاً: والله لن يذهب إلى النار إلا أنت!

وفي إحدى الصباحات قدّمت إلى جاسم بوشهري وثيقة تاريخية تعود إلى الثلاثينات، عن فرضة المنامة، وكانت هذه الوثيقة قد حصلت عليها من العم عبدالله علي جاسم فخرو، وتضمنت هذه الوثيقة مساهمة عدد من تجار البحرين ومنهم عائلة بوشهري، في بناء فرضة المنامة (المرفأ المالي حالياً)، فقال: «إنت يالمحرقي ما تعرف ان إحنا اللي ساهمنا في بناء فرضة المنامة وقاعدة يتسايك علينا» (وكلمة يتسايك يعني تدّعي المعرفة)، وقد أفحمني بما قال.

ذات يوم، كان الراحل بوشهري يدير حبات مسبحته الكبيرة كما قامته، وهو يتحدث عن الموت، إذ قال في جمع من الرفاق: «أنت ستموت قبلنا كلنا». وكان الحضور عبدالله ملك، سلمان كمال الدين، يوسف الخاجة، رضي الموسوي، يوسف يتيم، حميد الراشد. وعلّق سلمان كمال الدين بطريقته الخاصة وقال: عبدالله مطيويع سيدفنكم كلكم وأولكم يوسف يتيم... وضجّ الحضور بالضحك، حتى أصيب أحدهم بالهستيريا وخرج خارج غرفة التدخين المقامة في فناء جمعية «وعد».

أبو أمل قال لي في بداية حديثنا إذا متّ قبلك فأرجو دفني عند قبر محمد بونفور، وهكذا عملنا بوصيته. جاسم بوشهري لم يتسنى له الوقت ليقول لنا أين يريد أن يدفن... لكنني كتبت هذا في وداعك. سلاماً يا جاسم بوشهري إلى جنة الخلد. بونفور افتح الباب. بوجيري افتح الباب. بوشهري يقرع الباب. النعيمي أغلى الأحباب.

ارقد بسلام أيها الرفيق، فأنت حتماً ممن صدقوا في التزامهم بمبادئهم وأخلصوا لها، وأعطوا أكثر مما أخذوا، «ولله ما أعطى ولله ما أخذ».

صباحاً مجلس «وعد» سيفتقدك، وساحات «وعد» ستفتقدك، وجدران وشبابيك وطرقات «وعد» ستفتقدك... وكل الأحبة والرفاق سيفتقدونك. فأنت جسدٌ رحل عنا، ومبادؤك باقية.

إقرأ أيضا لـ "عبدالله مطيويع"

العدد 4150 - الخميس 16 يناير 2014م الموافق 15 ربيع الاول 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 7:15 ص

      نقطة نظام

      الاخ عبدالله كما فهمنا أردت الحديث عن خصال الراحل جاسم بوشهري لكنك لم تفعل بما يجب حول الموضوع الى افكار متناثرة من هنا وهناك وكان ينبغي أن تفعل غير ذلك وتركز الحديث على الراحل وخصاله ودوره وما قدم كما فعل الكتاب الاخرين مثل هاني الريس الذي استفاض في توصيف خصاله، وحقيقة الامر ما ذكرته لا يثري معارف القارئ عن الرجل ولم تنصفه.مع شديد اعتذاري لك صديقي عزيز.

    • زائر 3 | 3:11 ص

      الرحيل الموجع

      رحم الله الرفيق جاسم الذي رحل مبكرا وكان رحيله موجعا جدا الرجمه لجميع الرفاق بونفور بوجيري عبدالرحمن وجميع شهداء الوطن

    • زائر 2 | 2:56 ص

      الناس او الرجال نوعان: رجال مبادئ ورجال مصالح

      الرجال مبادئ ومواقف والمحن هي التي تكشف المعادن مهما حاول اصحابها التستر عليها. يقول الشاعر:
      مهما تكن عند امرئ. من خليقة
      وان خالها تخفي علي الناس تعلم
      رحم الله جاسم بوشهري ورحم الله الجميع فقد كانوا قامات عالية جمعهم هدف واحد مشترك هو حب الوطن واعماره والدفاع عن مصالح الشعب ، مواقفهم ثابتة في كل المواقف فلا تتلون بالوان الطيف الارضية. نشكر الاستاذ المطيويع علي هذا المقال

    • زائر 1 | 2:03 ص

      سلاماً يا جاسم بوشهري إلى جنة الخلد. بونفور افتح الباب. بوجيري افتح الباب. بوشهري يقرع الباب. النعيمي أغلى الأحباب.

      الرحمة والخلود للرفاق ولمبادئهم ووطنيتهم وتضحياتهم التي لم يبيعوها بالمال ولا المناصب ومطامع الدنيا الزائلة ولم يتاجروا في سوق النخاسة السياسية مثل ما يفعل المتساقطين الان من رفاق كانوا على نفس الدرب والمبادئ واستبدلوها بالسقوط الفكري والأخلاقي بدعوى سنة التغيير ومراجعة الذات

اقرأ ايضاً