العدد 4144 - الجمعة 10 يناير 2014م الموافق 09 ربيع الاول 1435هـ

إقليم البحرين: بين الحس الوطني والإطار الشرنقي

إن كتابة تاريخ أي منطقة يستلزم كتابة تاريخ الجماعات التي تستوطن هذه المنطقة، والبحرين بمكوناتها الحالية بها عدة مجموعات عرقية مختلفة الثقافة واللهجة والمذهب، وهناك تاريخ مختلف لتلك الجماعات، وزمن استيطانها في البحرين، وتعتبر الجماعات الحضرية أقدمها استيطاناً، وهذا ما تناولناه بالتفصيل في دراسات عديدة سابقة.

هذه الجماعة الحضرية، كما سبق أن ذكرنا في الفصل السابق، تعتبر جزءاً من جماعة حضرية كبرى توزعت في شرقي الجزيرة العربية، من العراق حتى عمان. إلا أن ما يميز المجموعة الحضرية في البحرين، ليس ثقافتها أو لهجتها، بل اتباعها المذهب الشيعي؛ فثقافتها ولهجتها تتقاطع مع ثقافة ولهجة المجموعات الحضرية الأخرى. وبسبب الانتماء المذهبي يتم تحاشي سرد تاريخ هذه الجماعة والتشكيك في أصولها. وهذه هي علة ظهور مناهج غريبة في تأريخ هذه المنطقة، والتي تؤدي إلى تمزقها.

ومما يزيد هذا الأمر سوءاً ظهور شعور الانتماء المناطقي أو القروي، والتشبث بهذا الانتماء وربما التعصب له. وقد نتج عن ذلك تاريخ مستقل لكل قرية أو منطقة، وربما زعم البعض أن لكل منطقة أصلاً قبليّاً مختلفاً عن الآخر ولهجة وتراثاً وثقافة مستقلة عن غيرها.

هذا النوع من التقوقع الذي ذكره العوامي أنه تقوقع «داخل إطار شرنقي ضيق إن تجاوز (الحارة) لم يتخطَّ القرية، وما يؤسف له أشدَّ الأسف أن يتسرب شعور (الشرنقة) هذا إلى طبقة المثقفين ممن يفترض تمتعهم بالوعي والبصيرة، والحس الاستشرافي، فيدركوا مخاطر سيادة مشاعر العزلة والتجزئة وخصوصاً في هذا العصر» (العوامي 1996، الواحة العدد الخامس).

إن هذا الإطار الشرنقي لم يكن موجوداً في السابق، فقد كان هناك حس وطني وحدوي يسود إقليم البحرين بأكمله، وقد أخذ هذا الشعور يتجه إلى التبعيض فظهر الانتماء القبلي والانتماء إلى قصبات البحرين الكبرى.

فالمرجح أن القبائل العربية التي هاجرت لهذه المنطقة منذ حقبة قبل الإسلام أدت إلى نشأة جماعات بشرية أخرى، بالإضافة إلى الجماعات الحضرية، وهي الجماعات شبه الحضرية، والجماعات القبلية في حياتها وسلوكها.

وكانت قبيلة عبد القيس تمثل جزءاً من الزعامة السياسية، في فترة ما قبل الإسلام وما بعده. وقد انخرطت في الحياة الحضرية وأصبحت جزءاً من جميع مكونات شعب البحرين القديم، وانضوت تحتها جماعات بشرية من أعراق مختلفة. وبذلك فإن حدود قبيلة عبدالقيس لم تكن محصورة في سلسلة نسب معروفة، بل إنها تضم جماعات التصقت واحتمت بها، وربما أقاموا علاقات زواج معهم، وبمرور الزمن أصبحت جزءاً منها، وإن ظل العرف القبلي محتفظاً بذكرياته القديمة عن أصولها، وخاصة أن جزءاً كبيراً من هذه الجماعات المنضوية حضري، أي أنهم يمارسون أعمالاً ينظر إليها البدوي نظرة استعلاء. وقد كان يتردد في أوساط عبدالقيس، وحتى زمن العيونيين في القرن الثاني عشر الميلادي، روايات عن اختلاط قبيلة عبدالقيس بعرقيات غير عربية، وهذا ما ظهر في شعر ابن المقرب العيوني (العماري، بدون تاريخ، ص17 - 18).

الحضر والحس الوطني

لقد ذاب جزء كبير من المجموعات القبلية التي سكنت البحرين مع المجموعات البشرية الثلاث، السابقة الذكر. وقد تخلى جزء منها عن حياة البادية كلية، واندمج مع الشعوب الحضرية وأصبح من ضمن الجماعات التي امتهنت الزراعة والملاحة وارتبطت بالأرض، والتي من بينها من قد يكون غير عربي، أو عربي اندمج في الحياة الحضرية وأخذ شيئاً فشيئاً يصبح ذا علاقة بالاستقرار والاستيطان (العماري، بدون تاريخ، ص17).

إن تخلي هذه الجماعات عن حياة البداوة بانتقالهم إلى عالم الحضر يلغي الحس القبلي الملازم لحياة الترحل والتجوال وما يصاحبهما من عدم الاستقرار، ويولد مكانها حاجة أخرى تخلق عنده حسّاً تعويضيّاً آخر هو حس الانتماء الوطني (العوامي 1996، الواحة العدد الخامس). وبذلك استحدثت تسميات جديدة للجماعة التي تعيش في إقليم البحرين، فقد كانت تعرف سابقاً بمسميات قبلية، كالعبدي والأزدي والإيادي والتميمي والبكري، وبعد تحضر تلك الجماعات أضيف إليها نسب جديد وهو «البحراني» نسبة لإقليم البحرين.

ولا يعلم تحديداً متى ظهرت هذه النسبة، أي البحراني، إلا أنها شاعت بالتأكيد بنهاية القرن الأول الهجري (بداية القرن الثامن الميلادي)، وتلا ذلك ظهور النسبة إلى قصبات إقليم البحرين الشهيرة فظهرت النسب: الهجري، والخطي، والأحسائي (العوامي 1996، الواحة العدد الخامس).

وقد اشتهرت اللهجة الحضرية التي يتحدث بها في إقليم البحرين في كتب اللغة ومعاجمها باسم «اللغة البحرانية» (وهي تسمية ذكرها الأصمعي) أو «اللغة العبدية البحرانية»، أو «اللغة العبدية» (بحسب ما جاء في لسان العرب)، والعبدية نسبة لقبيلة عبدالقيس؛ حيث اشتهرت هذه المسميات عند الوقوف على الألفاظ الغريبة عند شعراء عبدالقيس الذين عاشوا في حقبة ما قبل الإسلام (المعيني 2002، ص 219).

يذكر هنا أن الألفاظ التي تم نسبها إلى البحرين أو إلى قبيلة عبدالقيس هي ألفاظ حضرية، منها مازال يستخدم حتى يومنا هذا، مثل المعين (المساعد أو الأجير), والكنار (النبق)، والسخين (الصخين). كذلك نسب إلى قبائل تحضرت ألفاظ حضرية أخرى، مثل الأزد، فقد نسب إليها ألفاظ مثل: كرب النخيل، والزفن الذي يصنع من جريد النخيل وغيرها (السامرائي 2007)، وكلها ألفاظ حضرية لاتزال تستخدم في شرق الجزيرة العربية والإمارات وعمان، إلا أنها نسبت إلى القبائل التي تحضرت وبدأت تعيش في هذه المناطق.

ترسبات العصبية القبلية

لم تكن قبيلة عبدالقيس، وغيرها من القبائل التي تحضرت، حضرية في الأصل؛ بل كانت أقرب إلى البداوة منها إلى الحضارة وذلك عندما كانوا في موطنهم الأصلي، لكنهم لما هاجروا إلى البحرين واستوطنوها، فإن حياتهم أصبحت تميل إلى الاستقرار، وساعدتهم على ذلك طبيعة البحرين الجغرافية، ومعلوم أن الاستقرار والرخاء المعيشي من شأنه أن يؤدي إلى الازدهار في النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومجتمع عبدالقيس يبدو أنه انتقل نقلة جذرية، من حياة البداوة إلى حياة التحضر (آل الشيخ مبارك 1995، ص 37).

إلا أن قسماً من تلك القبائل بقي على قبليته. وحتى الجزء المتحضر أو الشبه متحضر منها بقيت عنده ترسبات من القبلية وبالخصوص قبيلة عبدالقيس ومن أنضوى تحتها. فيذكر أن «العبديين يتسمون بالوفاء للرابط القبلي بصورة تكاد تحلهم أعلى الرتب في هذا الجانب؛ فالملاحظ أنهم ظلوا متمسكين بنسبهم القبلي تمسكاً شديد القوة زمناً ليس بالقصير على رغم انتقالهم من البداوة واندماجهم في المجتمع الحضري، ويدلنا على وفاء عبد القيس للرابط القبلي ظاهرة انتشار الشخصيات المنتسبة إليها في الحواضر على طول البلاد الإسلامية وعرضها، متمسكة بنسبها القبلي على رغم الأزمنة الطويلة من الاستقرار والتحضر إذ استمر الولاء إلى القبيلة متشرباً في النفوس، راسخاً في العرف، حتى وقت متأخر جدّاً، تلمس ذلك من بقاء لقب (العبدي) سائداً حتى القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)» (العوامي 1996، الواحة العدد الخامس).

ويرى العماري أن هناك ضعفاً في العصبية القبلية عند أفراد عبدالقيس، ويبدو أن عصبية عبدالقيس تتمثل في التشبث بالنسب الذي يربطها بماضيها المليء بالبطولات (العماري، بدون تاريخ، ص17 – 18).

وما يرجح هذا الرأي عدم اتحاد كلمة قبيلة عبدالقيس على توجه معين، فقد تعددت التوجهات السياسية والميول المذهبية عند أفرادها، إلا أنهم اتفقوا فيما بينهم على تمسكهم بلقب العبدي. وهذا ما سنتناوله بالتفصيل في الفصل المقبل.

العدد 4144 - الجمعة 10 يناير 2014م الموافق 09 ربيع الاول 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً