في خمسينات وستينات القرن الماضي وما بعدهما، ارتبط العمل السياسي بقضايا مصيرية كبرى كانت الأمة العربية على امتدادها الجغرافي مهجوسة بها. وكان فتية المدارس وفتياتها على تماسٍ مباشر ومبكّر بالمنابع التي ستشكل وعيها الوطني ومسئوليتها النضالية مستقبلاً، وستشبّ عليه وربما تشيب، على يد معلّمي مدارس عرب كانوا، على اختلاف مشاربهم الفكرية وانتماءاتهم السياسية، يحملون هموماً أبعد كثيراً من مصالحهم الخاصة وعالمهم الصغير. هموم زرعها الاستعمار في صدور وقلوب العربي في كل مكان.
وكانت الاتجاهات الفكرية والسياسية تفتح شهية الناس وتغريهم بالاقتراب منها والأخذ بها. كانت القضايا الكبرى حاضرة، والدافع للعمل النضالي مترسخاً، والأطر الفكرية على تنوعها موجودة كمدارس حركية تدفع باتجاه قضايا الإنسان والعدالة والتحرّر من ربقة المستعمر.
لقد كان العمل السياسي فيما مضى إنسانياً وعادلاً وجميلاً، وكانت ترفده حناجر غنائية تحمل نغماً شجيّاً مفعماً بالمحبة، في قامة الست أم كلثوم والشيخ إمام وعبدالحليم حافظ وفيروز، وكان خلف هذا الثراء الفني الملتزم كوكبةٌ رائعةٌ من الشعراء المجيدين كعبدالرحمن الأبنودي وصلاح جاهين ونزار قباني ومظفر النواب ومحمود درويش.
المعركة إذاً معركة مصير، وقد تعاضد الفن مع هموم الأمة العربية بنحو أنتج أدباً وشعراً وغناءً صاغ وعي الأمة وهذّب إحساسها وشحذ هممها، وربطها بقضايا التحرير والاستقلال في زمنٍ كانت فيه «قضية عادلة» و»عدو» خارجي واضحاً، على خلاف ما نحن فيه اليوم من «ردة حضارية»، حيث لا قضايا عادلة ولا وضوح للعدو، والتنظيمات السياسية تُزرع كالأعشاب الضارة بأسمدة مغشوشة.
لقد كان الشعور القومي يغمر النفوس، والإحساس بمشكلة المستعمر الأجنبي يشترك فيه كل الناطقين بلغة الضاد، وكان هذا الشعور القومي عابراً للحدود وللحساسيات المذهبية، والمدارس الفكرية والنضالية كانت تختلف في الأسلوب والمنحى الايدلوجي، لكنها تتفق على الأهداف والمنطلقات، وتجد لها هامشاً واسعاً من المشتركات والعمل الموحد. وكانت حتى المعارك الايدلوجية تأخذ شكل مطارحات فكرية أقرب إلى التدرب لكسب اللياقة الفكرية وتحفيز «الرفاق» على التعاطي المنظّم مع مسائل الفكر والسياسة والأدب والاجتماع.
كل هذا ذهب وذهبت أيامه، وورثنا الآن بعد أكثر من أربعة عقود من خروج آخر جندي مستعمر من بلادنا، وأصبحنا مشغولين بمعارك دموية وفتاوى تتعامل مع البشر كتعامل الجزار مع الأضاحي، وتنظر إلى المسلم باعتباره كافراً ما لم يثبت العكس.
بعد الاستقلال دلفنا إلى مرحلة ذات تحديات جديدة، عنوانها الأبرز كان «البناء» و»التنمية». مرّت السنوات سريعاً ليجد العرب والمسلمون أنفسهم في زمن أغبر تنفلت فيه الكراهيات، كما يحلو للصديق نادر كاظم أن يعبّر، وتنبعث دعوات الأسلمة المخيفة طبقاً لمنهج تنظيم «القاعدة» وفقهها المفخخ وتعاليمها المتخاصمة مع الزمن والبشر، والحياة المدنية.
وكان لابد ونحن على مرمى حجر من بؤر التوتر والتوتير الطائفية في الجوار أن تنتقل إلينا حمم هذا الجحيم الملتهب بالنيران والحقد الأعمى، ولأننا لسنا محصنين ضد هذا الوباء المستورد والجنون العظيم؛ تلقفنا، أو البعض منا، منطلقات للعمل السياسي ليست بنت أرضها، انسجاماً مع روح الثأر وفكر التكفير ومنابذة الآخر وافتعال الأزمات الأهلية لتصير المناكفة والتشويش، وسائل العمل السياسي الوحيدة لهذه التيارات السياسية حديثة العهد بأبجديات العمل السياسي الصحيح.
كان من الأقوال المأثورة عن الزعيم الصيني ماو تسي تونج، شعار كان مرفوعاً في كل مكان في الصين، ينادي فيه الشعب الصيني: «احفروا الخنادق وامسكوا البنادق وتأملوا أحوال العالم من حولكم وفكّروا».
والمطلوب هو تطبيق نصف تعاليم «ماو»، لا حفر الخنادق ولا رفع البنادق، ولكن من الضروري تأمل أحوال العالم من حولنا والتفكير بما نحن فيه.
هذه الحقبة من «القلق الشديد والمخاطر الكامنة»، يجب تجاوزها، أدرك أن جزءً من أزمتنا هي أزمة جغرافيا، وهي من أعقد الأزمات، لكن جزءًا من هذا التعقيد ناشيء من هشاشة التكوين السياسي عند بعض الفرقاء السياسيين وعدم وضوح الرؤية والافتقار للبرنامج.
إن تياراً أو جماعة سياسية تجعل أكبر همومها، توقيت وبرمجمة نشاطها السياسي استناداً إلى ردود أفعال فصيل سياسي آخر ومناكفته وإشغاله بمعارك جانبية، هو تيارٌ مثيرٌ للشفقة والاشمئزاز في آن.
أعتقد أننا بحاجةٍ لاستعادة وقار وهيبة العمل السياسي يوم كان العمل السياسي يعني الانتصار لكرامة الإنسان وحريته وحقه في العيش سيداً على أرضه؛ ويوم أن كانت البندقية سلاحاً يُشهره الوطني الشريف في وجه المستعمر، حتى لو قادته إلى مشنقة الشيخ الليبي الجليل عمر المختار. عندها فقط سيكون للعمل السياسي احترامه وهيبته، ولن نستغرب التحية العسكرية للضابط الايطالي الذي منحها وساماً أبدياً، لرمز النضال الليبي.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 4140 - الإثنين 06 يناير 2014م الموافق 04 ربيع الاول 1435هـ