العدد 4137 - الجمعة 03 يناير 2014م الموافق 01 ربيع الاول 1435هـ

تراث كربلاء بين المتن والهامش

قراءة في طبيعة وآليات التوظيف

ثمة تساؤل يلح أحيانا على المتأمل في تراث كربلاء وفي هذا الكم الزاخر بالإبداع الأدبي المتواصل والذي لا ينضب بل يتجدد كل عام وقد تمل هذا التساؤل في أن كربلاء حادثة تاريخية محددة جرت في ظهر يوم عاشوراء في ساعات محددة، ذكرها التاريخ كحادثة تاريخية في أسطر محددة وبعض المؤرخين يذكرها في بضع صفحات فقط، فمن أين أتى هذا الهامش الواسع وكل هذا التراث الضخم والكم الأدبي الزاخر؟.

للإجابة على هذ التساؤل؛ لا بد من النظر إلى مفهوم الصياغة التاريخية والطبيعة السردية التي تلزم السارد باعتماد آليات الغرض والعودة إلى الوراء واستقراء ما سبق الحادثة وتضمين كل ذلك في الرواية، وكذلك توظيف الصياغة الشعرية التي تشتغل فيها المخيلة بحرية لتقول الشخصيات بأسلوب شعري على طريقة لسان الحال، ثم الصياغة المسرحية التي تشتغل على الحدث وتقدم إليه الكثير من التفاصيل الأخرى لتستكمل الحبكة والحالة الدرامية المبتغاة، ثم الصياغة الشعبية التي تتماشى مع طبيعة المخيلة الشعبية في لحظتها الراهنة، ثم الصياغة الاجتماعية والسياسية التي تستعيد الحادثة التاريخية وتشحنها بهموم تؤكد طبيعة انتماء والهوية والحضور الاجتماعي والسياسي. ومن هنا وعبر هذه الصياغات المختلفة التي يفرضها الهامش وطبيعة مصادره، يبدأ المتن في الاتساع بهذا الكم الزاخر.

الصياغة التاريخية

من أهم مصادر هذا الهامش الصياغة التاريخية التي تستدعي عناصر السرد المختلفة من وصف وحوار.

السرد المغرض ليس بالمعنى السلبي بل بمعنى إعداد الخلفية التاريخية بما يمهد للحدث ويوصله للهدف الذي يريده السارد، وكتب مقتل الحسين مشحونة بهذه الحالة، أو الكتب الأخرى التي تستدعي الصيغة السردية من المؤرخ بحسب تأويله وتهيئته للحادثة إلى أن يعود بواقعة كربلاء إلى ما قبل زمنها، فينطلق منذ زمن الرسول أو منذ ما قبل ذلك، بل وينطلق في تفاصيل يستدعيها كخلفية للحدث بما هو أبعد من ذلك بما تنسجه المخيلة التاريخية عادة وتستدعيه من تفاصيل، أو قد يفرد لكل شخصية مجالاً مستقلاًّ وتاريخاً يمتد من مولدها إلى لحظة المقتل، فكل شخصية أصبح لها يوم يحتفى به فيه وتستدعي تاريخاً مطولاً وخاصّاً. وهناك مداخل أخرى تنطلق من حادثة أو من عنوان معين فتقرأ التاريخ من خلاله ككتاب مقاتل الطالبيين، أو كتاب النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم، وغيرهما من الكتب.

الصياغة الشعرية

المصدر الآخر لهذا الهامش كذلك تلك الصياغات الشعرية، فكم يوجد في كتب المقاتل من قصائد وأشعار رثت الإمام الحسين وأصحابه في كربلاء وبعدها، حتى ليكاد يصبح الرثاء الحسيني غرضاً مستقلاًّ من الأغراض الشعرية، بل هو كذلك حيث احتفى به أئمة أهل البيت منذ العصر الأموي وأفردوا للشعراء أجواء خاصة في مجالسهم وشجعوهم على الرثاء. طلبوا منهم رواية الحادثة كما يقرؤونها فيما بينهم، بل وأضافوا لهم تفاصيل وعززوها بإضافة أبيات أخرى أحياناً، فأصبحت هناك مجالس خاصة تعقد لقراءة هذه الأشعار حتى صارت عرفاً سنويّاً وموسماً تحيا به المناسبة. وهناك الكثير من الكتب التي تحتفي بشعر الطف وتؤرخه وتؤرخ للحادثة من خلاله، وكم وسع هذا الشعر من الهامش الذي فتحه ذلك المتن، وصار من المعروف أن هذه الحادثة تردّد سنويّاً من خلال مجموعة من القصائد الشعرية، وهنا ينطلق كل شاعر في صياغته ويستدعي شخوصاً قد لا يكونون حاضرين في الحادثة بل ويدخلهم في حوارات متخيلة بما يصدم المتلقين أو ويفاجئ توقعاتهم، أو يلتفت إلى تفاصيل يشبعها بالإضافات بما يلبس صياغته تجديداً لم ينتبه إليه من قبله، أو يقوّل الشخصيات بالكثير من الحوارات فيصنع منولوجات كثيرة من الكلام المدعى، وما الحوار أحيانا إلا حدث كلامي ينضاف إلى بنية الحدث الأساسي ويدفعه إلى الأمام.

الصياغة الشعبية

والمصدر الآخر لهذا الهامش الممتد كذلك هي الصياغات الشعبية المتخيلة، فمن المعروف أن هذه الحادثة تنطلق سنويا في إحياء احتفائي يأخذ صيغة شعبية، من خلال مجالس عزائية تروي الحادثة وتقدمها من خلال الأبيات الحسينية خصوصاً الشعبية التي تصنع حوارات عديدة متخيلة على طريقة لسان الحال وتقوّل الشخوص بالكثير، كما هي حوارات أمهات الأبطال في مع أولادهن في كربلاء، التي تستدعي شخصيات لكربلاء لم تكن موجودة وتصوغ حوارات على لسانها، بين تلبية نداء العاطفة والأمومة في الاحتفاظ بالابن أو بين الدعوة لنصرة الحسين أو إجابة نداء الواجب، أو كما هي مخيلة زفاف القاسم في تمثيلية قصيرة حيث يعقد الحسين بابنته سكينة لابن أخيه القاسم بن الحسن حيث تحضر المقولة الشعبية «ابن العم يأخذ ابنة عمه» عمليّاً، وتحضر الثيمة الأساسية للدراما الكلاسيكية المتمثلة في الصراع عادة بين ثنائية نداء العاطفة ونداء الواجب وتتدخل الأم رملة بحوار تقارن فيه بين ثوب العرس والكفن، والزينة والدم، ويوم الزفاف ويوم الوفاة إلى آخره.

الصياغات المسرحية

إن ذكرى عاشوراء في أصلها عبارة عن استعادة حدث، وما المسرح غير حدث فيه شخوص يصنعونه وحوارات تدفعه إل الأمام وما يقدم في هذا الموسم هو احتفاء سنوي أشبه بحالة طقسية تتخذ صيغاً مسرحية متعددة، لعل من ضمنها مسرح استعادي تسجيلي تاريخي يستدعي شخوص الحدث ويدخلهم في حوارات ويحاول تمثيل المسرحية، وبحسب الزاوية التي يأخذها الراوي ترتسم الحادثة ويقوم بإكمال الأجزاء الناقصة من الحدث، ولذلك قد تضاف الكثير من التفاصيل على مستوى الحدث بحسب رؤية الكاتب أو الراوي أو بحسب المخرج أو حتى بحسب تمثلات الممثلين لحواراتهم، أو يتخذ الاحتفاء صيغة مسرح شعبي يجري عادة في القرى والأحياء بمسحة شعبية، فثمة جماعة يمثلون الحسين ويلبسون الثياب الخضراء وجماعة يمثلون يزيد بألوان مختلفة وتجري على ألسنتهم حوارات كثيرة من ضمنها أبيات شعر شعبي باللهجة الدارجة، أو مسرحيات إبداعية تنطلق من عناوين وقيم تشتقها من الحدث بحسب تأويلها فتصنع أبطالاً كالحسين وحوادث تقرأها من خلال حادثة كربلاء وتسقط عليها الرؤى نفسها بحسب التأويل.

العدد 4137 - الجمعة 03 يناير 2014م الموافق 01 ربيع الاول 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 4:41 ص

      دعوة للكاتب

      ادعوا الاستاذ والناقد حبيب حيدر ان يضع هذة الفكرة العميقة والافتة بين دفتي كتاب تليق بحجمها.

    • زائر 1 | 4:02 ص

      دعوه

      مقال جميل يحمل فكرة مختزلة ا جدها تضيق بهذه المساحه ,فهي تستحق ان تكون مشروع كتاب ....

اقرأ ايضاً