العدد 4137 - الجمعة 03 يناير 2014م الموافق 01 ربيع الاول 1435هـ

تاريخ البحرين: بين الحدود السياسية والثقافية

البحرين، كمسمى، كان يطلق على منطقة جغرافية شاسعة في شرق الجزيرة العربية، وقد ارتبط اسمُها باسم قبيلة عبدالقيس ارتباطاً وثيقاً؛ وذلك بحكم السيطرة السياسية على المنطقة منذ القرن الثالث الميلادي وحتى قبل مجيء الإسلام بفترة وجيزة.

وقد انضوى تحت هذه القبيلة العديد من الجماعات، وكذلك القبائل التي تحضرت، وبذلك كبر شأن هذه القبيلة في المنطقة. إلا أنه يجب التفريق بين تاريخ قبيلة عبدالقيس وتاريخ البحرين.

فهناك تقسيم سياسي للمنطقة بحسب الزعامة القبلية، أو زعامة دولة مَّا على منطقة جغرافية محددة، وهناك تقسيم ثقافي للجماعات، كانت عبدالقيس تمثل زعامة سياسية في البحرين لكنها لا تمثل كل شعب البحرين، عبد القيس تمثل عرقاً واحداً منصهراً مع عدة أعراق كون شعب البحرين القديم، ذو الثقافة الضاربة في عمق التاريخ. وقد سبق أن أوضحنا ذلك في سلسلة مطولة عن تاريخ البحرين في الحقبة الهلنستية وصدر الإسلام نشرت في «فضاءات الوسط» في الفترة من أكتوبر/ تشرين الأول 2010 حتى فبراير/ شباط 2011. وهنا نقتبس أهم نتائج تلك السلسلة.

لقد نشأت عدة حضارات على شاطئ الخليج العربي الممتد من البصرة حتى عمان، وتكون على هذه الأرض شعوب حضرية سامية تفاعلت فيما بينها وبين شعوب أخرى غير سامية. إن أحفاد تلك الشعوب لم تنقرض بل انصهرت مع القبائل العربية التي بدأت هجرتها لهذه المناطق منذ القرن الثالث الميلادي، وأهم هذه القبائل: إياد والأزد وعبدالقيس وتميم وبكر بن وائل. وتعد القبائل الثلاث الأولى (إياد والأزد وعبدالقيس) من القبائل التي تحضرت وذابت في الشعوب الحضرية، حتى عاب عليها العرب، بل تمت مقاطعة هذه القبائل لغويّاً؛ فهم من القبائل التي لا تؤخذ عنها اللغة العربية. وقد اعتبرت لغتهم ليست اللغة العربية الفصحى؛ لأنهم خالطوا الآراميين وغيرهم من الشعوب الحضرية. هذه هي البادرة الأولى التي أدت لاحقاً إلى تقسيم اللغة إلى لغة حضرية، وأخرى بدوية، وأخذ العلماء يعتنون بالثانية، ويحتكمون إلى أهلها (عبد التواب 1999، ص 105), (السيوطي، المزهر، دار التراث، بدون تاريخ، ج1: ص 212).

الحدود السياسية والحدود الداخلية للجماعة

تلك الشعوب الحضرية، التي سكنت الشاطئ الشرقي للخليج العربي، تحولت إلى كتلة واحدة منصهرة ومختلطة مع بعضها بعضاً. هذه الجماعة الحضرية قسمت بحدود «خارجية» بحسب السيادة السياسية، فقد سيطرت عبدالقيس على شرق الجزيرة العربية، وقد حددت هذه السلطة السياسية حدود البحرين القديمة، وقد تأثر عدد من الكتاب المتقدمين بتحديد مسمى المنطقة بحسب الحدود السياسية (الشرعان 2002، ص 19). إلا أن هذه الحدود الخارجية لا تعني الحدود الداخلية للجماعة، فالتركيبة العرقية التي سكنت البحرين سكنت عمان أيضاً، وأجزاء من اليمن، وحتى البصرة، انتشرت فيها الجماعة العرقية نفسها. فالمرجح أن تمصير البصرة حدث بين العامين 14 و17هـ، أي قرابة 638م (العيدان 1983، ص 89، النسخة الإلكترونية). وقد هاجر إليها شعوب حضرية من البحرين وغيرها، ولكن يلاحظ أن لهذه الشعوب تركيبة قبلية شبيهة بتلك التي تسكن كلّاً من البحرين وعمان في تلك الحقبة؛ حيث قسمت البصرة، بحسب القيادات المعروفة في تلك المناطق، إلى خمسة أحياء تعرف بالأخماس، كل خمس تحكمه قبيلة، وهي: الأزد وتميم وبكر وعبدالقيس، ويضاف إليها قسم لأهل العالية، وهي مجموعة قبائل. (العيدان 1983، ص 92 - 97، النسخة الإلكترونية).

تلك الجماعة الحضرية، الممتدة على تلك الرقعة الجغرافية الشاسعة، تشترك في العديد من العناصر الثقافية، هذه العناصر الثقافية هي التي تصنع الحدود «الداخلية» للجماعة. في أوروبا، عندما كانت لها لغة واحدة موحدة، لعبت لغات وثقافات كل جماعة دوراً مهمّاً في ترسيم الحدود السياسية للدول، يقول الفيلسوف الألماني فيخته (العام 1806م): «إن الحدود الطبيعية الأولى والأصلية للدول بشكل دقيق هي - من دون شك - حدودها الداخلية. وجمع أولئك الذين يتكلمون اللغة نفسها عدداً كبيراً من الرّوابط الخفية نسجتها الطبيعة نفسها منذ عهد بعيد، قبل أن يبدأ أي فن إنساني». (جوزيف 2007، ص 153).

شتات المجموعة الحضرية

المجموعة الحضرية التي تكونت قبل الإسلام وتوسعت في صدر الإسلام، لها ثقافة مشتركة وخصائص لهجية مشتركة، وحتى جينات مشتركة. وهناك عدد من عناصر هذه الثقافة المشتركة لها جذور ممتدة في عمق التاريخ، وهذا ما يميز أية ثقافة حضرية.

ويعتبر كتاب إبراهيم أنيس «في اللهجات العربية»، الذي نشر في طبعته الأولى في العام 1946م، من أوائل الكتب العربية التي أوضحت خصائص اللهجات الحضرية والقبلية وارتباطها بالثقافتين الحضرية والقبلية، حيث أوضح أنيس أن من أهم ما يميز الثقافة الحضرية هو مصداقية النقل الثقافي بين الأجيال؛ فالخصائص اللغوية والعناصر الثقافية تنتقل بصورة متواصلة بين الأجيال المرتبطة ببعضها بعضاً ارتباطاً شديداً؛ ما يؤدي إلى بقاء الخصائص اللهجية السامية القديمة وكذلك الترسبات الثقافية للحضارات السابقة (أنيس 2002، ص 80).

إلا أن تلك الجماعة الحضرية لم تكون دولة واحدة أو حتى عدة دول، بل بدأت تتفكك، وانقسمت إلى جماعات فرعية، داخل الجزيرة العربية، ومنها من هاجر إلى خارج الجزيرة العربية.

وعلى مدى القرون اللاحقة بدأت قبائل أخرى تهاجر إلى نفس مناطق تلك الجماعات الحضرية في شرقي الجزيرة العربية. وبحسب الظروف المكانية لكل منطقة حدث انعزال للجماعات الحضرية (Holes 2006)؛ ففي البحرين وشرق الجزيرة، انعزلت الجماعة الحضرية التي انتهجت المذهب الشيعي، عن الجماعات القبلية التي انتهجت المذهب السني، على رغم تجاورهم الجغرافي. وبذلك حافظت هذه الجماعة الحضرية على ثقافتها ولهجتها. أما في مناطق أخرى، الإمارات وعمان وجزء من اليمن، فهناك أسباب جغرافية واجتماعية أخرى أدت إلى انعزال جماعات حضرية حافظت على ثقافتها ولهجتها. ويرى Holes أن تلك الجماعات الحضرية لاتزال إلى يومنا هذا تتشابه في عدد من العناصر الثقافية، وكذلك تتشابه في عدد من الخصائص اللهجية، على رغم انعزال تلك الجماعات وتباعدها عن بعضها بعضاً (Holes 2006). وقد سبق Holes إلى هذه النتيجة كل من مهدي التاجر في أطروحته عن اللهجة البحرانية (Al-Tajir 1982, Arabic Summary, p.18 - 19)، وعبدالعزيز مطر في كتابه «ظواهر نادرة في لهجات الخليج العربي»، (مطر 1976، ص 31 وص 75).

وقد أوضح Holes، أيضاً، أن هناك جماعات تتحدث اللغة العربية في مجتمعات معزولة في شمال إيران وأوزباكستان وأفغانستان، تتشابه لهجتها مع لهجة هذه الجماعات الحضرية، والمرجح أن تلك الجماعات هاجرت من هذه المنطقة، أي شرقي الجزيرة العربية، عند تشتت الجماعة الحضرية فيها (Holes 2011).

وقد ناقشنا تكون الجماعة الحضرية في شرقي الجزيرة العربية وتفككها وانعزالها بصورة مفصلة في كتابنا «أطلس اللهجات المحكية في البحرين» والذي نشر على حلقات في صحيفة «الوسط» في الفترة من مارس/ آذار 2012 حتى مارس 2013.

إن تحول عبد قيس، والقبائل الأخرى، إلى الحضرية تبعه أيضاً تغيرات في الانتماء، فالحضري ينتمي إلى المنطقة التي يعيش فيها لا إلى القبيلة. إلا أن قوة العصبية القبلية والعصبية الحضرية بقيت بنسب متفاوتة في تلك الشعوب؛ فنتجت عندنا انتماءات، منها إقليمية ومنها قبلية، فهناك البحراني وهناك العبدي، وانتهي الحال بالتبعيض لأقل ما يمكن، أي النسب إلى القرى، فهل هي عصبية قبلية في حلة حضرية؟، هذا ما سنناقشه في الفصل المقبل.

العدد 4137 - الجمعة 03 يناير 2014م الموافق 01 ربيع الاول 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً