سقطت السلفادور هي الأخرى من فَلَكِ اليمين الموالي للغرب. فازت جبهة فارابوندو مارتي للتحرر الوطني اليسارية والتحقت بركب «الموجه النّابِهة» لدى الأميركيين اللاتينيين. ربما يكون ذلك مُريحا (أكثر) لهافانا التي تنفّست الصعداء.
هناك في القسم الجنوبي من العالم الجديد تُوجد أكثر من عشرين دولة وتابِعة. منذ قرون والاستعمار القديم والجديد من أسبانيا إلى إنجلترا والبرتغال وفرنسا (والولايات المتحدة اليوم) يتناوبون على تكريس حضورهم السياسي والاقتصادي والثقافي هناك. بل إن ثلاث دول لاتينية مازالت تتبع الجمهورية الفرنسية وهي غويانا وغوادالوب ومارتينيك.
الذي حدث أن دولا مركزية هناك سقطت من نقيض السردية السياسية التاريخية للقارة. سقطت كوبا منذ عقود. ومؤخرا سقطت فنزويلا، ثم البرازيل، تلتها بوليفيا، بعدها الأكوادور، وتأرجحت الأرجنتين بكريستينا فرنانديز واليوم السلفادور بكارلوس ماوريسيو فيونس.
في هذه التحوّلات الدراماتيكية حديث مُتّصل بكل ما له علاقة بحياة الشعوب ومناشطها واتجاهاتها. في السياسة والاقتصاد وأيضا في التركيبة النفسية لتلك الشعوب، وموقعها من النّديّة والتحالف.
مشكلة الغرب ومن مالأوه في تلك الأرض أنه حوّل دول الجنوب الأميركي بحَجَرِها ومَدَرِها سُخرة دون حياء. الأمر لم يتوقّف عند حدود التسخير، وإنما انتقل إلى القضم المنهجي لحريات الناس، عبر دعم أنظمة عميلة تسُودهم.
معظم الديكتاتوريات (وحتى قوى اليمين التقليدية) لا تجيد إلاّ ارتكاب الأخطاء. تتحالف القوى الإقطاعية والبرجوازية وبعض الفُلول الدينية وقوى أخرى يتمّ إرعابها بتقريب أشّد الأنوية النقيضة لها فتضطر للتحالف مع تلك الجوقة.
تستمر الأحوال على هكذا سكّة، حينها تتقلّص الأحياز الاجتماعية أمام ذلك الحلف الأسود الأمر الذي يُؤثّر على مشروعيته وإطاره القانوني، ويُؤلّب القوى المُهمّشة عليها والتي تُصبح وبشكل آلي عصيّة على غير التآلف والاتحاد ضد عدو مشترك.
في مثل هذه الظروف تُصبح الخيارات جدّ مفتوحة. في الحالة الدينية تظهر التفسيرات الجديدة للواقع. وفي الحالة الأخرى يُصبح المصير كذلك، فتنشأ التمرّدات هنا وهناك، كاسبة شرعية عدم الإنجاز لدى السلطة.
في السلفادور نشأ ما يُطابق ذلك وأكثر. ضمن مسيحية الرومان المُتكثلكة تمرّدت قطاعات صلبة داخل الكنيسة لتظهر لاحقا لاهوتات التحرير والأرض والتمييز الاجتماعي والإفقار.
وفي الحالة الأخرى أمسك اليسار المُتبقّي من الوهج الشيوعي للخمسينيات والستينيات براية التغيير، مُستغلا حاجات الناس في الأرياف والمناطق الواقعة على حوافّ المُدن، وإخفاقات السلطة اليمينية الحاكمة.
فنشأ حلف يمتلك شرعية التّحرّك على الأرض بغطاء سماوي لا يكترث بأي حديث يُشير إلى تناقض أو فتق الحالة الدينية المسيحية. ورغم أن المشوار كان أكثر من ستين عاما إلاّ أن كوامن هذا الحلف كان أقدر على الصمود.
الحسن في ذلك هو أن من أتوا إلى السلطة اليوم في أكثر دول أميركا اللاتينية كانوا أكثر لياقة ممن سبقوهم في السلطة. فعلى رغم ما جرى طيلة عقود من تصفيات وقتل بحق المعارضين فإن الفائزين الجُدد اختاروا التمايز عن أندادهم بالتمسّك بأخلاقية الجبهتين.
فكارلوس ماوريسيو فيونس الذي فاز في انتخابات السلفادوري قال كلاما آخر أمام أنصاره. فقد اعتبر فوزه «عهدا للمصالحة الوطنية، ورغبة في بدء صيغة تعايش ديموقراطي، بدلا من السعي للثأر أو تصفية للحسابات التاريخية مع اليمين».
الحال نفسه قام به رافاييل كوريا في الإكوادور، حين ألجمت إجراءاته في السياسة والاقتصاد أقصى اليسار ومنعته من التحرّك ضمن شعارات فضفاضة وراديكالية في الداخل والخارج.
هنا قد يُرَى اليسار الحاكم اليوم في العديد من دول الجنوب الأميركي متصالحا مع محيطه الداخلي وجواره الإمبريالي. لكن الحقيقة هي أن تلك الممارسة هي الأصوب من العيش في نخاع شعار السياسة على حساب شعورها.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2463 - الخميس 04 يونيو 2009م الموافق 10 جمادى الآخرة 1430هـ