العدد 4136 - الخميس 02 يناير 2014م الموافق 29 صفر 1435هـ

كيف بنت شركة كويتية مقر «يونيب» في نيروبي؟

ذكرتُ في الحلقة السابقة أن الحكومة الكينية وافقت على اقتراح المدير التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) بدفع نصيبها في إيجار المقر للسنوات الثلاث الباقية مقدماً. لم يكن هذا حباً في عمل المنظمة الوليدة، بل لأن كينيا بدأت تشعر أن هناك مناورات لإثبات أن اختيار هذا المقر البعيد غير مناسب لعمل «يونيب»، فأرادت أن تبدي تأييدها لعمله واستعدادها لتسهيل أنشطته.

بعد انتخابي مديراً تنفيذياً للمنظمة بسنوات ثلاث، قابلت أول مشكلة سياسية عاصفة في عملي. كنت قد تعودت على الخلافات الشديدة بين الشمال والجنوب حول برنامج المنظمة وتمويله كل عام منذ عينت نائباً لمدير المنظمة. ولكن خلال العامين 1978 و1979 واجهتني مشكلة لا علاقة لها بالبرنامج أو التمويل أو قضايا البيئة عموماً، وإنما مشكلة حكمتها السياسة والتكتلات الإقليمية.

العام 1978، أثارت الدول النامية قضية المبنى في نيروبي. ذكروا في الجمعية العامة للأمم المتحدة أنه من غير المعقول أن أول مبنى للأمم المتحدة ينشأ في العالم النامي لا يكون على مستوى لائق تدفع كلفته الأمم المتحدة من ميزانيتها العادية، ولا يمكن أن يستمر تمثيل الأمم المتحدة لأول مرة في الدول النامية بهذا المبنى البسيط الذي أنشئ في نيروبي. وافقت الجمعية العامة العام 1978 على إدراج 41 مليون دولار لإنشاء مبنى كامل لكل من «يونيب» ومركز الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (Habitat) الذي كان أنشئ العام 1978، ومعهما مكاتب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والبنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة للطفولة والمكاتب الوطنية لقسم الأمم المتحدة الإعلامي ولوكالات الأمم المتحدة المتخصصة الموجودة في كينيا.

طرحنا المناقصة، وجاء العرض الأدنى من شركة «سوليل بونيه» الإسرائيلية، لأنها كانت تعمل في كينيا ومعداتها كانت موجودة هناك. كان العرض أقل من الشركة التالية، الصينية، بمبلغ مليوني دولار.

ينص نظام المناقصات في الأمم المتحدة على أنه، عندما يكون هناك نشاط ذو وضع سياسي معين أو كلفة عالية، يشكل الأمين العام لجنة لفحص العطاءات من أقدم نائب للأمين العام مقيم في المنطقة التي يوجد فيها النشاط (كنت أنا في ذلك الوقت) ومعه نائب الأمين العام للإمدادات ونائب الأمين العام المستشار القانوني للأمم المتحدة، وتقدم توصياتها إلى الأمين العام وهو الذي يبت في الأمر.

تشكلت اللجنة، لأن كلفة المبنى الجديد عالية وتحيط به أوضاع سياسية شائكة. كان واضحاً أن أقل عطاء هو عطاء الشركة الإسرائيلية. رفعنا توصيتنا بذلك. علم بها السفراء في نيويورك، فغضب العرب وقال سفراؤهم لدى الأمم المتحدة للأمين العام إنهم لا يقبلون أن تذهب مساهمات الدولة الرسمية في موازنة الأمم المتحدة إلى شركة إسرائيلية. بعد ذلك حذت الدول الإفريقية الحذو نفسه وكررت له ذاك الكلام.

موافقة مع الشكر

كان مقرراً أن تنتقل المكاتب المحلية للبنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي وعدد آخر من منظمات الأمم المتحدة معنا إلى المبنى الجديد. سألت مديري كل هذه المكاتب عما إذا كانوا جادين في الانتقال إلى المبنى الجديد، وجاء الرد بالنفي من غالبيتهم، لأن المكان بعيد وهم يريدون البقاء بجوار الوزارات التي يتعاملون معها. طلبت منهم إرسال هذه الردود كتابة، ووصلتني الردود قبل أن يحصل الأمين العام على الفتوى القانونية. عندما وصلتني تلك الفتوى اتخذت قراراً بإلغاء المناقصة بالكامل. وهاجت الدنيا، وهاجمتني كل الصحف الغربية، وخاصة البريطانية والأميركية. ظلت شهراً كاملاً تهاجمني وتصفني بأنني اتخذت قراراً سياسياً لا علاقة له بحياد الأمم المتحدة وأنني متحيز ضد إسرائيل.

طلبت الدول الأعضاء في اللجنة الاستشارية الخاصة بالشئؤون المالية والإدارية في الأمم المتحدة (التي تضم ممثلي بريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا ـ وكلها دول متعصبة جداً لمصلحة إسرائيل) أن أمثل أمامهم لأوضح أسباب هذا القرار. حضرت لقاءهم، وأوضحت أنني اتخذت القرار ليس لأي أسباب سياسية وإنما لأن مكتبي برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والبنك الدولي لا يرغبان في الانتقال إلى المبنى الذي سيعد. وقلت إن المبنى الجديد مصمم ليضم موظفي مكاتب البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي والمكاتب المحلية الأخرى للأمم المتحدة بالإضافة إلى موظفينا وموظفي المنظمة الجديدة «هابيتات». ولكن عدداً كبيراً من الموظفين لن يتواجد ـ بسبب رفض البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي وعدد من مكاتب الأمم المتحدة في نيروبي الانتقال إلى المبنى الجديد ـ فلم يعد هناك مبرر لإنشاء الوحدات الاثنتي عشرة المقررة، ويلزم اختصارها إلى ثماني وحدات على الأكثر.

ظلوا يومين كاملين يناقشونني في كل ما ذكرت. ثم أصدروا قراراً ينصح الجمعية العامة بالموافقة على قرار مدير «يونيب» بإلغاء المناقصة وإعداد تصاميم جديدة وطرح مناقصة جديدة. واقترحوا أن أقدم التصاميم الجديدة خلال شهر ـ عمليات تعجيز! أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها بالموافقة على اقتراح المدير التنفيذي لـ «يونيب»، وأصررت على أن تكون الموافقة مصحوبة بالشكر لأنني وفرت للأمم المتحدة ثمانية ملايين دولار. فتضمن القرار شكر المدير التنفيذي.

«الخرافي» تنشئ المقر

بعد صدور القرار، أثار مندوب ليبيا الدائم لدى الأمم المتحدة في نيويورك قضية مركز المؤتمرات، وضرورة وجوده في أول مبنى للأمم المتحدة في دولة نامية. وانضمت إليه كل الدول العربية والإفريقية، وتلتها بقية الدول النامية. طالبوا جميعاً بضرورة إقامة مركز للمؤتمرات في المبنى الجديد، ووافقت الجمعية العامة على ذلك. فكان أن اختصرنا المباني من اثني عشر مبنى ـ كل مبنى عبارة عن طابقين ـ ستة في كل جانب ـ إلى ثمانية، أربعة في كل جانب.

بعد ذلك زرت ثلاث دول عربية، الكويت والسعودية والعراق، وأعلمت المسئولين فيها أن ليس هناك أي ضمان ألا تخفض الشركة الإسرائيلية عرضها أكثر في المرة المقبلة. قلت لهم: «عليكم أن تجدوا الحل، فلن تكون لدي أي مبررات لإلغاء المناقصة مرة أخرى». تقدمت أربع شركات عربية. وبعثتُ ممثلي المنظمة، من غير العرب والأفارقة، ليزوروا هذه الشركات. وكانت منها شركة الخرافي الكويتية، فانبهروا بما رأوه لديها من مستوى عالٍ في الكفاءة والإدارة، وقالوا إنه شيء غير مألوف في كثير من الدول الصناعية.

قدمت الشركات العربية عروضها، وكانت أقل من عرض الشركة الإسرائيلية بأربعة ملايين دولار. وبالفعل رست المناقصة على شركة عبدالمحسن الخرافي الكويتية. تم كل هذا بعد محادثات اتفاقية السلام التي وقعها الرئيس المصري أنور السادات مع إسرائيل مباشرة، تلك المعاهدة التي أدت إلى تعليق عضوية مصر في الجامعة العربية ونقل مقرها إلى تونس. أرسلت إسرائيل إلى الرئيس السادات رسالة قالت فيها إن مصطفى طلبه متحيز للعرب الآخرين ضد السادات وضد إسرائيل، ويسيء للعلاقة بين مصر وإسرائيل. حدثوني هاتفياً من الرئاسة أثناء إحدى زياراتي للقاهرة، وقالوا إن السيد حسني مبارك نائب رئيس الجمهورية يريد أن يقابلني. قابلته، وقال لي إن الرئيس خارج مصر وقد طلب منه أن أفسر له ما ورد من إسرائيل. سردت عليه القصة كاملة، وأبلغ الرئيس السادات بهذا. كانوا يريدون إحداث وقيعة بيني وبين السادات. لم ينجحوا.

بين مطرقة الاستخبارات وسندان إسرائيل

قابلتني مشكلتان أخريان لاحقاً كانت وراءهما أيضاً السياسة لا غير. الأولى العام 1987، وكانت الحرب الباردة على أشدها بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. أخطرني المندوب الأميركي الدائم لدى «يونيب» في نيروبي أن البيت الأبيض يطلب إلغاء الدعم الطوعي الذي تقدمه الولايات المتحدة إلى «يونيب» ومقداره عشرون مليون دولار (تمثل أكثر من 20 في المئة من المساهمات الطوعية في صندوق البرنامج) لأنني أترك المنظمة مفتوحة لرجال الاستخبارات السوفييت كي ينقلوا كل شيء الى حكومتهم.

كان هذا أمراً غريباً، ولكنها الحرب الباردة. فمنذ بدء عمل البرنامج كان معنا في المناصب الكبرى الأميركي بيتر ثاتشر، الذي كان يعمل أصلاً في وكالة الاستخبارات الأميركية (CIA) أثناء فترة رئاسة جورج بوش الأب عندما كان رئيساً لتلك الوكالة، والروسي ايفتييف. وكلنا كان يعلم أن الترشيح لأي منصب كبير في الأمم المتحدة من قبل الاتحاد السوفييتي لم يكن يتم إلا إذا كان للمرشح وضع خاص مع الاستخبارات السوفييتية (KGB).

لم يكن هذا يقلق موريس سترونغ أو يقلقني، إذ لم يكن لدى البرنامج أي أسرار لا يعرفها كل مندوبي الدول الدائمين المعتمدين لديه في اللقاءات الشهرية التي كنا نعقدها معهم. وفي اجتماع المندوبين الدائمين التالي أخطرتهم بما تم، وذكرت أن هذه إهانة لا أقبلها لنفسي أو لـ «يونيب» وأنني سوف أتعامل مع الموضوع.

نقل المندوب الأميركي ما دار في اجتماع السفراء إلى وزارة الخارجية الأميركية في واشنطن، وعلى إثر ذلك طلب نائب وزير الخارجية الأميركية مقابلتي. وعندما كنت في زيارة إلى واشنطن زرته في مكتبه، وأعدت عليه ما قلته لسفراء الدول في نيروبي.

قال لا بد أن هناك سوء فهم في الموضوع، وطلب مني أن أنسى ما نقل إلي، وستدفع الولايات المتحدة نصيبها، وسألني أن أغلق الملف. شكرته وقلت إني لا أستطيع أن أغلق الملف، لأن الموضوع طرح في اجتماع السفراء في نيروبي ولا بد أن أحصل على خطاب من المندوب الأميركي الدائم يلغي ما قيل عن أسباب سحب المساهمة، لعرضه على السفراء. وقد تم هذا فعلاً.

المشكلة الثانية واجهتني العام 1991. تلقيت رسالة موقعة من خمسة أعضاء في مجلس الشيوخ الأميركي يذكرون فيها أنهم بصدد مناقشة مساهمة الولايات المتحدة الطوعية في موازنة «يونيب» في المجلس، وطلبوا إجابات عن الأسئلة الثلاثة الآتية وكلها خاصة بإسرائيل:

- لماذا لم أعين في برنامج الأمم المتحدة للبيئة أي موظف من إسرائيل؟

- لماذا لم أعين أحداً من إسرائيل في الأنشطة الاستشارية الكثيرة في «يونيب»؟

- لماذا لم أزر إسرائيل طوال 18 عاماً على رغم أنني زرت أكثر من ثمانين دولة وذهبت إلى بعضها مرات عديدة؟

كان نوابي طوال فترة رئاستي للمنظمة من الولايات المتحدة، أختارهم أنا، وعادة يكون من أختاره غير من ترشحه واشنطن. طلبت نائبي الأميركي في ذلك الوقت ويليام مانسفيلد، وأخبرته بفحوى الخطاب، وقلت إنني أعلم أن المحرك الأساسي هو فلان (واحد من الخمسة) لأنه مشايع جداً لإسرائيل. رجوت نائبي أن ينقل ردي إليه بالهاتف ويسأله إذا كانوا يريدون رداً مكتوباً.

كان ردي الذي نقله نائبي هو: إن مدير المنظمة لا يعين أحداً. التعيين يتم بناء على اقتراح لجنة شئون العاملين، التي تختار أفضل ثلاثة مرشحين تقدمهم إلى المدير التنفيذي للاختيار من بينهم. لم تقدم اللجنة أي اسم من إسرائيل، وهذا يعني أن إسرائيل لا ترشح إلا من هم في مستوى متواضع من القدرة العلمية لا يرقى إلى مستوى المنافسة مع مرشحي الدول الأخرى. ثم إنني عينت أحد الإسرائيليين مستشاراً في مكتب اتفاقية برشلونة لحماية البحر المتوسط في أثينا. عمل في المكتب لأشهر معدودة، واستقال لأنه لم يستطع التأقلم مع زملائه في المكتب.

وأوضحت أنني أزور الدول بدعوة من وزير البيئة ـ وكان وزير البيئة الإسرائيلي في ذلك الوقت هو رئيس الوزراء ـ وإذا وردت إلي دعوة من الوزير المختص (رئيس الوزراء) فإنني أزور إسرائيل في خلال أسبوع من ورود الدعوة. ولكن لدي قرار من المجلس التنفيذي لـ «يونيب» بأن أقدم له تقريراً سنوياً عن حالة البيئة في الأراضي المحتلة من فلسطين، فإذا زرت إسرائيل فلا بد أن أقضي يوماً في الأراضي المحتلة للاطلاع على الأوضاع البيئية.

نقل الرد بالهاتف، وكان التعقيب: لا نريد شيئاً مكتوباً وسوف نوافق على المساهمة. لم يكن لهذا أية علاقة بعمل «يونيب» أو كفاءته، ولكن كان الأمر كله مرتبطاً بدعم مجلس الشيوخ الأميركي لإسرائيل.

العدد 4136 - الخميس 02 يناير 2014م الموافق 29 صفر 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً