صنف من أصناف البله الفكري أو الاجتماعي ونوع من أنواع السطحية السياسية، بل يمكن اعتباره تفننا في خلط الأوراق بمستوى - ممجوج - من الغباء أو الاستغباء، أن يدعي أحد أن أداة الحوار، أداة قد انتهت صلاحيتها في هذا المجتمع أو ذاك، بسبب التوافق على ميثاق عمل وطني وتفعيل دستور وتحكيم القانون بين الأطراف المتعددة في المجتمع الواحد. وذلك عندما يعتبر هؤلاء أن مرحلة قد انصرمت وقضت بانتهاء دور فعل الحوار. أو أن أزمة قد انتهت وولى زمنها، فلم يعد للحوار مكانا حين ذاك.
في حين يتعين على العقلاء النظر إلى الطبيعة الديناميكية في حركة المجتمعات البشرية والتي تفرض ضرورة استمرار فعل أداة الحوار، كما يتعين اعتمادها كمكنة محركة لفك العقد والاختناقات التي لا تختفي من مشهد الحراك الاجتماعي - حتى في جمهورية أفلاطون - والتي لا تنفك تتسبب هذه العقد والاختلافات، بفعل اختلاف الرغبات والإرادات والأهداف والتطلعات بين أطراف المكون الاجتماعي في أي مجتمع حيوي متنامٍ؛ تتسبب في إعادة حالة الأزمة أو الخلاف على مشهد الحياة اليومية. ويتأكد ذلك عند استحكام أي نزاع أوصراع، أو عند نشوب أية أزمة عابرة أو مستفحلة، بل حتى وإن توصل المتحاورون إلى حلول أو مخارج بمستوى من التقدم والناجزية. لأنه وبعد التوصل إلى حل نهائي بالحوار الناجح، يبقى أمر تفعيل أداة الحوار يتحرك في دائرة تكريس موانع الوقوع في ما يقود إلى الرجوع للمربع الأول.
على أن ميثاق العمل الوطني في ذاته، ليس فيه ما يقوى على منع تجاوزه، أو الانحراف عن أهدافه. وبالمرور على فصول ميثاق العمل الوطني سنجد جمالا أدبيا لفظيا صاغته مخيلة كانت تحلم بأيام لم نعشها بعد. ولكن رغم هذا الجمال فإن ما يقابله من قبح في الممارسة والأداء الفعلي في الواقع الحياتي اليومي لا يكاد يغيب عن مشاهدات شريحة كبيرة من مجموع المكون الاجتماعي في بلدنا الحبيب. فهل في هذا ما يدل على انغلاق باب الحوار أو انتهاء صلاحيته؟
ففي الفقرة الثالثة من الفصل الخامس من ميثاق العمل الوطني تنص مفرداتها على: «غير أن تطور الممارسة الديمقراطية ينبغي أن لا يقف عند حدود معينة، طالما أن هناك مساحات أرحب لهذه الممارسة يمكن ارتيادها من أجل فتح آفاق أوسع لمزيد من الديمقراطية...» وفي هذا إشارة لا تخفى على لبيب، هي أن الأفق الأرحب والمساحة الأوسع، بحاجة إلى توافق من خلال حوار سليم، مبني على تحاور متكافئ وعادل تكون سيرورته بين الأطراف المعنية، كل بحسب موقعه في المعادلة السياسية في الوطن.
ما يعني أن دعاوى حصر الحوار في المجلس الوطني، تمثل بروباغاندا إعلامية وتضليلا مغرضا لتشويه المفهوم الحقيقي للحوار الوطني في بلد يحلم أهله بالعيش في أمن ورخاء، واستقرار اجتماعي وسياسي ومعيشي، تكفل فيه كرامة الإنسان.
مؤتمر الحوار الوطني الثاني الذي جرت وقائعه في 29 مارس/ آذار 2008م تحت شعار «الثوابت الوطنية فوق الانتماءات الطائفية» كانت قد نظمته 13 جمعية مدنية ذات الاهتمام بالشأن العام، وشارك فيه رسميون، وإعلاميون، وأدباء، ومفكرون ومثقفون وجمعيات مهنية وعمالية واجتماعية ونسائية وشخصيات ورموز وطنية، كانت محاور المؤتمر:
- المجتمع المدني والوحدة الوطنية.
- الإعلام والوحدة الوطنية.
- القوانين والتشريعات المناهضة للطائفية والتمييز.
- الطائفية والمواطنة المفهوم والمعنى وانعكاساتها على الوحدة الوطنية.
لم يقل أحد حين ذاك، إن الميثاق الوطني قد كفى ووفّى، ولم تعد الحاجة إلى التلاقي والتحاور حول المحاور التي ذكرت آنفا. وإنما شارك في المؤتمر جميع الأطياف والفعاليات والشرائح التي تؤمن بالحوار كمنهج حضاري متقدم يوظف لمعالجة تهديد أي تفكك مجتمعي على أساس الطبقة أو الطائفة أو القبيلة أو العرق أو اللون أو جميعها.
كما أن باب استشرافات المستقبل في ميثاق العمل الوطني يفتح باب الحوار على مصراعيه، عندما يراد معالجة البند الثاني تحت عنوان السلطة التشريعية:
« تعدل أحكام الفصل الثاني من الباب الرابع من الدستور (دستور 1973) الخاصة بالسلطة التشريعية لتلائم التطورات الديمقراطية والدستورية في العالم وذلك باستحداث نظام المجلسين، بحيث يكون الأول مجلسا منتخبا انتخابا حرا مباشرا يختار المواطنون نوابهم فيه ويتولى المهام التشريعية، إلى جانب مجلس معين يضم أصحاب الخبرة والاختصاص للاستعانه بآرائهم فيما تتطلب الشورى من علم وتجربة».
إن دعاة الحوار الوطنيين لن يألوا جهدا في البحث عن قضايا يتحاورون فيها، لأنهم يكتوون بنارها في كل يوم يمر على إنسان هذا الوطن. ولكن الحوار كعملية سليمة فاعلة يجب أن تأخذ مكانها في الحراك المجتمعي، يجب أن تتوافر محدداتها الأساسية سلفا ليكون الحوار بين الأطراف المعنية في قضية بحسب ثقلها ووزنها وموقها من الإعراب!
فما الذي يمكن توقعه من مجتمع واعٍ، يجد سلطته التشريعية التي انتخبت انتخابا حرا مباشرا لاختيار نوابهم المضطلعين بالتشريع والمراقبة، في حين يزاحمة مجلس معيّن له صلاحية تقديم المشورة. ألسيت هذه أحجية سياسية أو حقوقية أو دستورية تسترعي اهتمام المتحاور في البحث عن من يصح التحاور معه؟ وهل يملك أعضاء المجلس الوطني صلاحية تغيير صلاحيتهم؟ وكيف؟
إن الحوار الوطني في البحرين ضرورة لا مناص عنها، بسبب تكدس القضايا التي تم التفريط في معالجتها معالجة علمية موضوعية ناجزة، فقضايا من قبيل، المسألة الدستورية، نظام المجلسين، التجنيس، التمييز، الإسكان، النمو السكاني، الخدمات الصحية، الخدمات البيئية والمرافقية، الفقر، السواحل، التعليم، الملف المثير للجدل، الدوائر الانتخابية، التشكيل الحكومي، تداول السلطة، الأمن، حقوق الإنسان، البطالة، الموازنة العامة، أزمة الثقة، رؤية 2030، الأمن الاجتماعي، الأمن المعيشي، حرية الرأي.
كلها قضايا جوهرية في ذاتها، تحتاج إلى حوار وطني بين أطراف قادرة على اتخاذ قرار يكون مؤداه إنعكاسا إيجابيا على الرأي العام في الوطن.
فبالتعرض لمسألة توزيع الدوائر الانتخابية، هي يمكن اعتبارها مسألة تشريعية أم مسألة سياسية مفروضة من الأعلى؟ وبالتالي من غير المجدي معالجتها في المجلس الوطني، وخصوصا أنها من المسائل التي تنال من جوهر الحق، وهو حق المواطنين في المساواة بين أفراد المجتمع كما نصّت المادة 31 من الدستور «...ولا يجوز أن ينال التنظيم أو التحديد من جوهر الحق أو الحرية» كما أن المادة 4 من الدستور تنص على: «العدل أساس الحكم، والتعاون والتراحم صلة وثقى بين المواطنين، والحرية والمساواة والأمن والطمأنينة والعلم والتضامن الاجتماعي وتكافؤ الفرص بين المواطنين دعامات للمجتمع تكفلها الدولة» نعم تضمنها الدولة، ولكن أليس في التباين الواضح في توزيع الدوائر على أساس عدم التكافؤ في قوة صوت الناخب مخالفة لأساس الحكم؟ وهو العدل، فمن المعني به هنا؟ هل النواب؟ أو المجلس الوطني؟ وإذا كان النواب أو المجلس الوطني، أليس في ذلك تعارض وتناقض مع ما يسببه من تضارب مصالحهم؟
إن الحوار الوطني، خيار استراتيجي وليس حاجة آنية، يتداعى لها المجتمع عندما تحل به أزمة، أو يقع في دائرة الصراع. والحوار الوطني سلوك حضاري يجب أن يمارس الأطراف الضغط على بعضهم البعض للركون إليه وتوظيفه في كل مفاصل الحراك الاجتماعي والسياسي. ويجب أن يكون على أسس متينة مبنية على هندسة محترفة تضع في مكونات خريطة الطريق كل شاردة وواردة ليشعر الإنسان بإنسانيته وليشعر المواطن بوطنيته؛ وينتقل المتحاورون من حوار المدخل مرورا بالطريق اللاحب والشائك ربما إلى حوار المخرج الذي يجب أن يعتز به كل إنسان على أرض هذا الوطن كنتاج محلي ينعكس أثره على كل ذرة تراب من تراب هذا البلد الطيب.
إقرأ أيضا لـ "هادي حسن الموسوي"العدد 2463 - الخميس 04 يونيو 2009م الموافق 10 جمادى الآخرة 1430هـ