في إحدى رسوم الكارتون القديمة، يقوم الصَّبي الإيطالي الشقي المدعو «فرانشي» بإيهام أصدقائه بأنه يغرق في النهر بينما هم وقوف على اليابسة. وعندما يهرع أصدقاؤه لنجدته بسرعة وهَلَع يُخرِج فرانشي لهم رأسه من الماء ثم يضحك في وجوههم ساخراً بأنه استطاع خِداعهم، فهو لم يُصَب بسوء، وأنه سالمٌ معافى.
لكنه يُصرُّ على خداعهم مرةً ثانية، فيطلب النجدة منهم، فيصاب الأصدقاء بالتردُّد قليلاً لكنهم لا يستطيعون إلاَّ أن يقدموا له طوق النجاة، فيعود للسخرية منهم مرةً ثانية. لكنه وفي المرة الثالثة، وبعد أن جرفته مياه النهر، وأصبح في هلاكٍ مؤكَّد، طَلَبَ النجدة منهم بحق وحقيقة، لكن مَنْ كانوا يهرعون لمساعدته في المرتين السابقتين، أصبحت لديهم القناعة الكافية بأنه يكذب فتركوه لمصيره.
بدأتُ بهذه القصة «الكارتونية» البسيطة، كي أتحدث عن «الكذب» كإحدى أسوأ طبائع السلوك البشري. وهو عادة مارسها البشر على مر التاريخ، وبشكل كبير، سواء في الدِّين أو السياسة أو التجارة أو الفكر، بحيث لم يقتصر الكذب على لحظته فقط، بل امتد إلى حيث الكذب على الماضي والمستقبل أيضاً، وذلك طمعاً في إكمال الصورة الوهمية.
وقد تحدث علماء النفس، عن بعض علامات الكذب، فأكَّدوا على أن من صُوَرِهِ زيغ البصر، والتكلُّف العصبي، والتكرار، والتعميم، والأهم تجنّب الإشارة إلى الذات، والاستخفاف بالآخرين. وعندما نحاول إسقاط هذه العلامات على أصحاب الكذب، ستظهر لنا تجارب لا حصر لها، عبر تلازم المواضيع مع المصاديق، وفي الوقت نفسه تشابه حالات الكذب في علاماتها.
لكن، يبقى الكذب معركة حامية وقذرة للمضمر ولإخفاء الحقائق، أو كتمها، وبالتالي، هو في حقيقته صراع من أجل تغيير مشهد/ معلومة/ موقف ما دون أن يكون له أركان على الأرض، أو أثمان، أو حتى دلائل طبيعية، مع حرص الكذّاب على أن يجني من خلاله أرباحاً دون عناء أو مشقة، أو يمنع عن نفسه خطراً داهماً جاءه من عمل مشين. لذا، فإن الكذب ليس سلوكاً سيئاً فقط، بل مُركَّب أيضاً، وتجتمع فيه كل النعوت المذمومة.
وحسب تقرير خبري سابق لمحطة الـ «بي بي سي» البريطانية، فإن جامعة برادفورد في لندن، أنتَجَت جهازاً حديثاً (بل هو الأحدث) لكشف الكذب. القيِّمون على اختراع الجهاز يقولون أنهم يضعون كاميرتيْن أمام الهدف، الأولى كاميرا فيديو والثانية كاميرا حرارية.
الأولى لتصوير تعبيرات الوجه، التي بإمكان الإنسان أن يقوم من خلاله بسبعة وأربعين تعبيراً، والثانية ترصد تغيُّر حرارة الوجه، المرتبطة بتدفق الدم، خصوصاً بالمنطقة المحيطة بالعينين، ثم يتم تحليل كل شيء بشكل دقيق، ثانيةً بثانية، من خلال برنامج حسابي معقد جداً يحسب تلك الحركات، والنتيجة في ذلك دقيقة بنسبة سبعين في المئة.
من جهة أخرى، فإن الأطباء النفسانيين يقولون بأن نصف تعبيراتنا تكون من خلال حركات أجسادنا؛ وأن ثمانين في المئة من كشف الكذب يمكن رصده من خلال تلك الحركات الجسدية، التي يقوم بها الإنسان، وبالتحديد من خلال نصف جسده الأعلى ابتداءً من الصدر فما فوق. والأهم من كل ذلك الجزء هو العين بحركاتها الأربع، ثم عبر الصوت.
بالنسبة للدفوع السيكولوجية للكذب فهي متعددة وكثيرة، لكننا نذكر منها فقط: الدفاع عن النفس، وجلب المنافع. مع التأكيد هنا، على نسبية الكذب، وأيضاً كشفه. فهناك نسبة عالية من القدرة على كشف الكاذبين، لكن تبقى هناك نسبة تصل إلى الثلاثين في المئة، لا يمكن اختراقها أو معرفة ميزانها الفاصل ما بين الحقيقة وخلافها.
هنا، تظهر مدى خطورة الكذب، وخطورة التعامل معه، إذا ما أصبح أمراً حاسماً ومعتاداً في حياة الناس، أو متحكماً في مصائرهم، خصوصاً إذا ما ارتبط بالكذب السياسي، الذي تمتهنه بعض الأنظمة السياسية، إلى الحد الذي تحوَّل فيه ذلك الكذب، إلى أشبه ما يكون بالأصوات المتشابهة دائماً والصادرة عن سوق الصَّفَّارين.
فعندما تنبري أرقى الجامعات، وتُقام البحوث والمعامل والمختبرات، لإنتاج وابتكار أجهزة تكشف الكذب، بالاعتماد على بحوث علم النفس، والحسابات الرياضية، فعلينا تخيُّل مدى خطورة استهداف وسائل الإعلام الرسمية والصفراء، للشعوب والجماعات، والتي عادةً ما يغلب عليها «العادية» وليس «النخبة»، فتكون صيداً ثميناً لمشاريع الكذب «الجهنمية» فتذهب ضحيةً للاستقطاب نحو معارك وهمية لا ناقة لها فيها ولا جمل.
فالأنظمة التي لا تتمتع بالشفافية ولا المحاسبة على أخطائها، ولا ترتضي مشاركة أحدٍ لها في السلطة، مع نَهَمِهَا في الاستئثار بالمال العام، عادةً ما تلجأ إلى الكذب للتعمية، ولحرف الأنظار عن القضايا الأم، والتي هي مهزومةٌ فيها أخلاقياً وقانونياً وعرفياً، حتى ولو كان فعلها السيء هو قتل البشر بالمئات بالطائرات وبلا رحمة. وعادةً ما تختار في سبيل ذلك كعب أكيل الناس.
لكن الشيء الذي يجب أن يُذكر هنا، أن مشاريع الكذب السياسي عبر التاريخ، لم يكن لها حظ الاستقرار في الوجدان الشعبي، كون الكذب عادةً ما يحمل في جوفه بذرة هلاكه كما حصل لنيرون. فالحقائق، تبقى كذلك، لأن الواقع والدليل وتفاصيل الحياة، ونهايات الأمور تسندها، أما الكذب، فهو لا يحظى بأي شيء من ذلك، وبالتالي فإن مسيرته إلى فناء.
وربما تجذَّر هذا الأمر اعتماداً على التوزيع غير العادل في ميزان القوة، حيث تنال تلك الأنظمة، الجانب الأكبر والأمضى من القوة المادية، بينما لا تحظى الشعوب إلاَّ بلحمها الحي، وقوتها الشعبية. لذا، فقد ظلت الشعوب هي الأقدر على إقناع العالم بقضاياها انطلاقاً من ذلك الميزان المختل، والذي تفرضه وحدة القضية والمأساة لأكبر عدد ممكن من البشر، يعيشون في حيِّز جغرافي معلوم البداية والنهاية.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4135 - الأربعاء 01 يناير 2014م الموافق 28 صفر 1435هـ
اجهزة كشف الكذب لا تستطيع كشف الكذب
أتمنى ألا يعتقد الكاتب أن جهاز البولغراف يستطيع كشف الكذب، نعم أنه قد يستطيع إماطة اللثام عن بعض مظاهر الكذب أو الأدلة على وقوعه من قبل الشخص الذي لم يحترف كذباً. والحال ان الساسة الذين يصورون أنفسهم بانهم يبحثون عن العدل والمساواة والحرية للناس هم أكثر الناس كذباً ونفاقاً .. من أجل مصالحهم الشخصية .. واقرأ التاريخ وستجده حافلاً بأمثالهم على مرّ السنين . . فلا داعي للمبالغة والمواقف الوسطية المتزنة هي الأفضل والأجمل . .
احسنت
احسنت اخ محمد مقال مفيد وممتع في القرائة
قضية غسيل الاموال !
الاستاذ الفاضل محمد عبدالله .. أتمني ان تكتب مقالا تفصيليا وتحليليا لقضية غسيل الاموال التركية وانعكاسها الوضع الداخلي والخارجي في ايران . ولكم جزيل الشكر
بحريني عز وفخر
خافوا على ديرتكم قبل لا تخافوا على حقوقكم
مقال أكثر من رائع
مقاال ممتاز .. في البحرين بلد مليون كذبه
محمد
جهاز كشف ........هدا وفعال فقط لما اتوجه على تلفزيون البحرين
اه على الكذب لقد تعرضت له وتورطت وأحاول ان أتخلص من تباعاته
لقد أخدت على حسن نية وصدقت وعندما اكتشفت حجم الكذبة أعطاني إحساس بان الطيور طارت باارزاقها لكنني لم استسلم وهانا أحاول مسك الأمل لإصلاح الضرر