هناك حملة إسرائيلية أخذت تتصاعد تدريجيا ضد زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما للمنطقة العربية. الحملة الإعلامية مدعومة من بقايا «تيار المحافظين الجدد» ونائب الرئيس السابق ديك تشيني وأنصار تل أبيب في الكونغرس وعشرات المؤسسات وأجهزة الضغط (اللوبيات) ومافيات التصنيع الحربي وأسواق المال وأصحاب نظريات الرأسمالية المتوحشة و «الفوضى البناءة».
الحملة المتصاعدة الآن ضد زيارة أوباما للرياض والقاهرة ليست جديدة فهي حلقة ممتدة من سلسلة بدأت تطارد الرئيس منذ اللحظة التي أعلن فيها عن عزمه على الترشح للمنصب الأول في الولايات المتحدة. مجرد الترشح اعتبرته المدارس العنصرية خطوة استفزازية تريد اقتحام بيت رئاسي خصص للبيض فقط. وبدأت الحملة تشن معركة على لون بشرة أوباما (الأسود أو الأسمر) وأصله الإفريقي (كينيا) ووالده المسلم وزوج والدته (المسلم من اندونيسيا) وطفولته التي تغذت بالثقافة الإسلامية واسمه الوسيط (حسين) واحتمال التزامه بالعقيدة أو العادات (الصلاة والصوم).
كانت الحملة العنصرية المضادة عنيفة ووقحة وبذيئة إلى درجة استفزت المشاعر عند الأقليات الأميركية الملونة. حتى القوى السياسية المنضوية في الحزب الجمهوري أحست بالإهانة وشعرت بالتمييز العرقي واللوني والديني. وأدى الأمر إلى إثارة غضب وزير الخارجية الأميركي السابق كولن باول الذي تبوأ رئاسة أركان الجيش وقاتل في حرب فيتنام واحتل مكانة خاصة في حزب الرئيس جورج بوش.
باول (الإفريقي الأسمر) أعلن انحيازه للمترشح الديمقراطي انطلاقا من مبدأ المساواة ورفض التمييز واحتجاجا على استخدام لغة اختلاف اللون والدين والأصل والفصل للتشكيك بالهوية والولاء للوطن. انقلاب باول على حزبه الجمهوري في الشهر الأخير من الانتخابات الرئاسية الأميركية لعب دوره المعنوي في تصحيح اللغة المهينة والكلام المنحط في التعامل السياسي مع الناس. والمقابلة التلفزيونية التي عقدها باول دفاعا عن الديمقراطية الأميركية شكلت إضاءة لإنارة طريق متعرج للوصول إلى البيت الأبيض.
حديث باول كان صاعقا في وضوحه. فهو حذر من المساس بالدستور الأميركي والعودة مجددا إلى زمن العبودية والتمييز بين البشر وطالب الشعب الأميركي الاستفادة من التجارب وعدم تكرار الأخطاء والسقوط في هاوية الأحقاد العنصرية والعداء للبشرة وكراهية الإسلام.
باول في حديثه أكد رفضه التشهير بالمترشح أوباما لأنه إفريقي أو مسلم مشيرا وهذا أهم ما قاله «ما العيب في أن يكون مسلما. وهو ليس كذلك». فهل الإسلام إهانة؟ ولماذا لا يكون المسلم رئيسا إذا أراد الشعب الأميركي ذلك؟
مضمون مقابلة باول كشفت أيديولوجية «تيار المحافظين الجدد» ونزعت عن الحزب الجمهوري الغطاء وحطمت الكثير من الحواجز التي وضعتها المدارس العنصرية في طريق «الديمقراطية الأميركية» ما ساهم في تعديل الصورة وترسيم خريطة أدت إلى انتخاب أوباما بغالبية كاسحة رئيسا للولايات المتحدة.
كل هذه المتغيرات شكلت مفاجأة تاريخية لم تكن منتظرة. وعلى رغم أن انتخاب أوباما أنقذ «الديمقراطية» الأميركية من لوثة العنصرية استمر «تيار المحافظين الجدد» يثير المخاوف من هوية الرئيس وإسلامه السري وثقافته الإفريقية. حتى نائب بوش (تشيني) ادعى أنه أصيب بالتواء في ظهره قبل يوم من تنصيب أوباما حتى لا يقف للرئيس المنتخب ويصافحه.
عنصرية تشيني لا تزال تتقيح. فهو لم يتوقف عن التهجم على أوباما في كل خطوة وبعد كل خطاب متهما إياه بتعريض أمن الولايات المتحدة للخطر الإرهابي وتهديد المصالح الأميركية وتخويف حليف واشنطن الإستراتيجي في «الشرق الأوسط». وليس غريبا في الأمر أن يتلاقى تنظيم «القاعدة» مع الحملة المضادة للرئيس أوباما حين استنكر قادته زيارته للسعودية ومصر. فالتنظيم شريك غير مباشر في ترويج أيديولوجية «المحافظين الجدد» من حيث تقديم الذرائع لاجتياح أفغانستان والعراق أو من جهة أقدامه على تهديد وحدة باكستان أو مطالبته بتقسيم اليمن وزعزعة استقرار المنطقة والدعوة إلى الفتن الطائفية والمذهبية.
كل الأيديولوجيات التي تدعو للحقد والكراهية تتفق على الحد الأدنى من التلاقي وهي تتقاطع مصلحيا حتى لو ابتعدت جغرافيا. «تيار المحافظين الجدد» ضد أوباما لأنه يريد أن يتصالح مع المسلمين ويتحاور مع العرب. بعض الليبراليين ودعاة حقوق الإنسان ضد زيارة أوباما لأنه يعطي شرعية لأنظمة لا تحترم الديمقراطية. الحكومة الإسرائيلية المتطرفة في أيديولوجيتها العنصرية والتوسعية والاستيطانية ضد جولة أوباما العربية لأنها تعزز الموقف الفلسطيني وتعطيه قوة في إطار التفاوض على التسوية.
هذه الأمثلة يمكن تعميمها على مختلف الأزمنة والأمكنة وصولا إلى لبنان. فالجنرال ميشال عون الذي يخوض معركة انتخابية لا يتورع في استخدام كل الموبقات الطائفية والمذهبية والعنصرية لإثارة الكراهية في الشارع المسيحي ضد الشريك المسلم. وبلغت الوقاحة بالجنرال أنه عمد على توزيع نسخة من «إخراج قيد» أمام بوابات الكنائس وساحاتها تشير إلى أن المترشحة عن المقعد الأرثوذكسي في دائرة بيروت الأولى (الاشرفية) ارتدت عن دينها وأصبحت مسلمة (شيعية). واضطرت الشابة نايلة تويني إلى عقد مؤتمر صحافي ترد على أكاذيب «التيار الوطني الحر» وتلك الافتراءات التي تريد تأليب الناس ضدها بذريعة الارتداد عن المسيحية وسرقة مقعد مخصّص للأرثوذكس لمصلحة الشيعة.
المترشحة تويني كانت ذكية في ردها فهي اعتذرت من المسلمين وأكدت احترامها لكل الديانات والعقائد ولكنها كانت مضطرة للرد لكشف حقيقة «جنرال» لا يتورع في استخدام كل الأسلحة ومنها الأخطاء بقصد تحويلها إلى خدعة انتخابية وزعزعة ثقة المقترع المسيحي بالوجوه الشابة. أكثر من 50 ألف نسخة طبعها تيار الجنرال للقول بأن تويني مسلمة مضيفا إليها مجموعة مواقع إنترنيت أخذت توزع «الخطأ الطباعي» وتنشره على الجمهور المسكين والبسيط.
الحملة المضادة التي قادتها المترشحة تويني تذكر كثيرا بتلك المقابلة التلفزيونية التي عقدها كولن باول للرد على أيديولوجية التشهير ضد أوباما بذريعة أنه من أصول إفريقية وعربية ومسلمة ويحمل الاسم «حسين». فالشابة تويني أكدت احترامها للإسلام والمسلمين ولكنها بالولادة مسيحية أرثوذكسية وجدها من جانب أمها يدعى ميشال المر وجدها من جانب والدها يدعى غسان تويني.
كلام الجنرال عون يتلاقى كثيرا مع الحملة المضادة التي قادها ولايزال تشيني رافضا تقبُّل واقع الاعتراف برئاسة أوباما للبيت الأبيض. والجنرال الذي لا يتورع في استخدام «كل شيء» من أجل الوصول إلى السلطة يحتاج فعلا إلى جنرال من نوع باول ليرد عليه بالقول من دون حياء «وما العيب في الإسلام».
لغة العنصرية واحدة وهي كما يبدو من الصعب أن تنهزم. فهناك الكثير من مقالات التشهير التي أبدت انزعاجها من مصافحة سابقة جرت بين أوباما وخادم الحرمين الشريفين في «قمة دول العشرين» وهناك الآن الكثير من المقالات الإسرائيلية التي تعترض على زيارة أوباما للمنطقة العربية. والمنطق نفسه أخذ به بعض قادة «القاعدة».
المهم الآن أن الرئيس الأميركي في المنطقة العربية. وهذه المبادرة السياسية التي يرى البعض أنها خطوة لتصحيح علاقات تعرضت للاهتزاز خلال عهد «تيار المحافظين الجدد» بينما تراها «إسرائيل» إشارة إلى نوع من الانحياز إلى الجانب العربي في إطار التسوية على «قاعدة الدولتين» لن يتوقع أن تحقق إنجازات. فالتوقعات متواضعة ولكن المراهنة على احتمال التغيير مسألة مشروعة ومنطقية. فمن كان يتوقع قبل سنة أن حسين أوباما سيدخل البيت الأبيض؟ ومن يدخل التاريخ في أقل من سنة يستطيع أن يفعل الكثير في سنوات أربع.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2463 - الخميس 04 يونيو 2009م الموافق 10 جمادى الآخرة 1430هـ