لقد ترك الرئيس الأميركي باراك أوباما زيارة كل من العسودية ومصر وإجراء مباحثات مع قادة الدولتين وتوجيه خطابه الموعود للعالم الإسلامي من جامعة القاهرة التي هي أعرق جامعة عربية حديثة غصة كبيرة في حلق أولئك الكتاب والسياسيين المتحذلقين الذين دأبوا على ترديد فلسفة الهزيمة وصك العبارات البراقة والتشكيك في كل شيء، وإثارة الحساسيات غير القائمة والتي يفتعلونها في كثير من الأحيان ثم يصدقونها، ولتوضيح ذلك نسوق بعض الملاحظات المرتبطة بتلك الحوادث والمواقف.
الملاحظة الأولى: إن عبارة المكان والمكانة كما صاغها العلامة الجيواستراتيجي المصري جمال حمدان في كتابه المشهور «شخصية مصر» لم تستهدف التفرقة بين المصطلحين بل كان ثمة تكامل بينهما، فمصر المكان ارتبطت بمصر المكانة طوال تاريخها، وإن اختلف الدور ومظاهر التعبير عنه باختلاف العصور، كما اختلفت فاعلية الدور من مرحلة لأخرى، بحكم التطور الاجتماعي والاقتصادي، فمصر الفرعونية غير مصر الإسلامية، غير مصر الحديثة.
الملاحظة الثانية: إن المفهوم العلمي الحديث يختلف عن مفاهيم صكها فلاسفة هزيمة 1967 باسم النكسة، وباسم الدور المنفرد، وباسم الشقيقة الكبرى، وباسم التنافس بين عواصم ثلاث هي القاهرة وبغداد ودمشق وبعد ذلك أضيفت لهم الرياض، وغيرها من المفاهيم التي تجاوزها الزمن في حين أن المفهوم العلمي الصحيح يعتمد على مبدأ تكامل الأدوار وتفاعلها معا، فزيارة أوباما للقاهرة لا تعني الإقلال من مكانة دول أخرى في المنطقة العربية وزيارته للرياض لا تعني افتئاتا على دور القاهرة، فالتنسيق بين العاصمتين حقيقة من حقائق تاريخنا الحديث. كما أن زيارة أوباما لفرنسا ثم ألمانيا لم تكن تعني إلغاء لمكانة أو مكان أو دور أي من تلك العواصم، ودور مصر ونشاطها السياسي والدبلوماسي على المتسوى العالمي والإقليمي والعربي لا جدال فيه، ودور السعودية في الاقتصادي العالمي وفي كونها قبلة الإسلام والمسلمين هو من المستوى نفسه.
ولقد شاء القدر أن معظم مرتكبي الحادث الاجرامي في 11 سبتمبر/ أيلول من هاتين الدولتين، وهؤلاء ليس لهم أية صفة رسمية، وإنما هم مواطنون ضلوا عن الحق. ولكن القوى المعادية للعرب والمسلمين قامت بتصوير ذلك بصورة مشوهة للطعن في هاتين الدولتين وسياساتهما. ومن ثم برزت الحملات المضادة لهما في الولايات المتحدة في ظل إدارة الرئيس السابق جورج دبليو بوش، وأدى هذا التشويه للطابع الوطني والقومي لكلا الدولتين إلى حالة من التوتر في علاقاتهما مع الولايات المتحدة في عهد بوش، بل إن الرئيس مبارك لم يزر الولايات المتحدة لعدة سنوات نتيجة لذلك، وهذا خير دليل على استقلالية القرار المصري، وبناء على ذلك فإن زيارة أوباما لكل من مصر والسعودية هو إبراء للنظام السياسي والاجتماعي في هاتين الدولتين من كونه يفرز الإرهاب والفكر المتطرف وهو تأكيد لدورهما ومكانهما ومكانتهما في الوقت نفسه.
الملاحظة الثالثة: إن العصر الاستبعادي والفكر الإقصائي لبعض المثقفين المؤدلجين انتهى إلى غير رجعة، إن عصر الزعامات المتفردة والقيادات التي قادت للهزائم المتلاحقة، وهي قيادات بعضها ناسب عصرها، وبعضها قصرت رؤيته نتيجة من إحاط بهم من مفكرين صوروا للسياسيين التفرد الذي هو لله وحده، في حين أن السياسة تعني التوافق والتنسيق والتفاعل والتوازن بين الرؤى المختلفة والمصالح المتنوعة، وهذه حقائق الحياة، فالاختلاف في المواقع الجغرافية والأبعاد الاستراتيجية والوزن الثقافي والديمغرافي والاقتصادي لكل دولة يجعل لها خصوصية عن الدول الأخرى. والفكر السياسي السليم أن هذا الاختلاف يدعو لتكامل الأدوار.
الملاحظة الرابعة: نسوقها لبعض مثقفي وكتاب الماضي وبعض السياسيين الطامعين للأضواء أنه انتهى عصر التطلعات غير المؤسسة على الحقائق أو التي تعتمد على الأضواء الإعلامية التي يتم رسمها عبر الفضائيات أو الصحف المؤدلجة، فالأدوار تعني الحقائق السياسية والاقتصادية والعسكرية، كما تعني التقدم العلمي والسكاني. ولقد هزمت ألمانيا وإيطاليا واليابان في الحرب العالمية الثانية، ثم عادت هذه الدول بقوة، لأن ركائز القوة الشاملة كامنة وموجودة فيها، كما أن أضواء كازينوهات موناكو لا تعني أن موناكو أصبحت قوة كبرى تنافس فرنسا أو إيطاليا.
الملاحظة الخامسة: إن بعض ما سيقوله أوباما ربما أمكن التنبؤ به وتسرب للإعلام، وربما يضيف إليه بعض الأفكار. وهذا كله شيء إيجابي ولكن الأهم هو ما سنقوله نحن وما سنفعله نحن، وهل نحن نعمل ونسعى لتطوير بلادنا، وتغير فلسفة الهزيمة والتباكي على الماضي والبكاء على اطلاله. إن المطلوب قرار استراتيجي عربي على مستوى القمة يحقق هدف التعاون والتوحد، وكمواطن عربي أقول: إن المطلوب من قياداتنا إعمال الفكر الموضوعي في إمكانيات كل دولة ومقارنة ذلك بإمكانياتنا إذا توحدنا ليس وحدة سياسية، وإنما توحدنا في فكرنا العلمي، وفي سياساتنا الاقتصادية، وفي تطوير البنية الأساسية للدول. لقد خسر العرب عدة مئات من المليارات من جراء الأزمة المالية العالمية عندما اعتقدوا أن الاستثمار في الدول الغربية هو في أمان تام، وتجاهلوا الاستثمار في أوطانهم العربية على رغم صعوباته وعقباته.
الملاحظة السادسة: إن المطلوب بعد زيارة أوباما للمنطقة ومحادثاته مع قادة كل من مصر والسعودية وخطابه في جامعة القاهرة، عقد قمة عربية كاملة أو مصغرة للتشاور بصراحة واتخاذ قرارات بتعزيز العمل العربي المتشرك وتحقيق المصالحة العربية السليمة، وأن ينسى قادة العرب ذواتهم وأشخاصهم لصالح القضية المشتركة وهي قضية فلسطين التي للأسف هي في طريقها للضياع؛ نتيجة تنازع الفلسطينيين فيما بينهم، ونتيجة استقطاب العرب وغيرهم لهذا الفصيل أو ذاك، ونتيجة انعدام الرؤية والصدقية في حوارات العرب فيما بينهم أو حوارات الفلسطينيين فيما بينهم. إن المطلوب هو الخروج من فكر الطوائف التي سادت في الأندلس، وأدّت للقضاء عليها، إلى فكر التوحد والرؤية غير الأنانية التي تتكامل فيها الأدوار، كما يحدث بين الدول العاقلة الرشيدة في القرن الحادي والعشرين.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 2463 - الخميس 04 يونيو 2009م الموافق 10 جمادى الآخرة 1430هـ