العدد 4129 - الخميس 26 ديسمبر 2013م الموافق 23 صفر 1435هـ

مانديلا وعرفات... مقاربة في الاستراتيجيات

يوسف مكي comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

مرور خمسة وثلاثين عاماً على اندلاع انتفاضة أطفال الحجارة في فلسطين، الصفحة الأنصع والأجمل في تاريخ النضال الفلسطيني، مناسبة تستحق إعادة طرح السؤال: لماذا نجح كفاح شعب جنوب إفريقيا، بقيادة نلسون مانديلا في إنهاء نظام الفصل العنصري، بينما فشل كفاح الثورة الفلسطينية المعاصرة، بقيادة ياسر عرفات في إنجاز مشروع التحرير وتفكيك المشروع الصهيوني العنصري؟

انطلقت الثورتان، في حقبة متقاربة، وتبنتا استراتيجية متماثلة، هي الكفاح المسلح لتحقيق أهدافهما، ثم اتجهتا لاحقاً إلى الحلول السياسية. ورغم هذا التشابه، فإن جملة من العوامل المحلية والإقليمية والدولية، أسهمت في تعثر مسيرة الثورة الفلسطينية، ولم تمكنها من تحقيق هدفها الأصلي، في تحرير فلسطين التاريخية، في حين مكنت عوامل محلية وإقليمية ودولية، الثورة في جنوب إفريقيا من إنجاز أهدافها.

الخاصية التي تميز استراتيجية الكفاح المسلح، أنها أعلى صور الكفاح، والأقل مساومة، والسيف فيها أصدق من الكلمات. في حين تستدعي استراتيجية الحلول السياسية، تقديم تنازلات، من قبل مختلف الغرماء في الصراع. وهنا يكون لموازين القوة القول الفصل في نتائج المفاوضات. فليس من المتوقع أن يقدم الخصم تنازلات مجانية لغريمه، من غير مكاسب. وذلك ينسحب على الثورتين الإفريقية والفلسطينية على السواء، خصوصاً إذا لم تلحق بالمحتل خسائر، مادية ومعنوية تجبره على القبول بتقديم التنازلات للثائرين.

الثورة الفلسطينية المعاصرة، ولدت بالمنفى، وعمودها الفقري هم اللاجئون الفلسطينيون في سورية والأردن ولبنان. ورغم أن انطلاقها من المنافي هو العامل الأول في ضعفها، لكنها مجبرة على ذلك. فالضفة الغربية والقدس الشرقية جزء من المملكة الأردنية الهاشمية، وقطاع غزة تحت الإدارة المصرية.

لم يكن منتظراً من النظامين، الأردني والمصري، أن يسمحا للمقاومة بالعمل ضد الكيان الصهيوني من أراضيهما، لأن ذلك يعني دخولهما في حرب مباشرة، مع الكيان الغاصب، لم يكونا في أحسن الأحوال، جاهزين لها. والحرب في هذه الحالة، لن تكون في مصلحة أمنهما الوطني. فكان على المقاومة الفلسطينية أن تختار الحلقات الأضعف، لتتمكن من العبور إلى الأراضي المحتلة وشن عملياتها العسكرية ضد العدو.

بالتأكيد لم يكن بإمكان المقاومة أن تنطلق من الأراضي التي أقامت عليها «إسرائيل» كيانها. فالفلسطينيون هناك أقلية ومحاصرون، ولم يكونوا موضوعياً في وارد حمل السلاح ضد العدو. وكل ما يطمحون إليه هو تأكيد هويتهم وثقافتهم الفلسطينية والعربية، من خلال المؤسسات المدنية والتشريعية التي أسسها العدو.

في جنوب إفريقيا، يختلف الوضع بشكل شامل. فالأفارقة هم الأغلبية. والمستوطنون الأوروبيون عند اندلاع الثورة، لم يتعدوا العشرة ملايين نسمة، من أصل خمسين مليوناً، يمثل الأفارقة أغلبيتهم. وحين كان المطلب الإفريقي هو طرد المستوطنين من البلاد، كانت تهم الإرهاب تلصق بالثوار، ووجدوا من الصعب تعاطف المجتمعات الأخرى مع مطلبهم. وحين انتقلوا إلى الحل السياسي تبدل الموقف لصالحهم.

على الجانب الفلسطيني، تعاطف الشعب بأسره مع المقاومة. وحين حدثت نكسة يونيو/حزيران عام 1967، كانت الهزيمة كاملة، ولذلك توجت المقاومة الفلسطينية، لتكون الأمل الوحيد في ظل العتمة، وأصبح المقاوم الفلسطيني قديساً يحقق بعضاً من التوازن النفسي للأمة، بعد خيبة الجيوش العربية، في المنازلة مع العدو.

لحظة الهزيمة العربية التي ارتبطت بالنكسة، هي لحظة صعود المقاومة الفلسطينية. فكل الحلقات الموصلة للأراضي المحتلة أصبحت ضعيفة ورخوة. والأنظمة العربية التي فشلت في المواجهة مع العدو، لم يكن بإمكانها، في ظل تلك الأوضاع الصعبة التي أعقبت النكسة، أن تتصدى للمقاومة وتمنعها من مقاومة العدو المحتل، خصوصاً أنها لم يعد لديها بنيان عسكري يعتد به.

خلال تلك الحقبة، تمكنت المقاومة من تدشين قواعدها وبناء هياكلها في الأردن، ثم في لبنان. ولكن دول المواجهة العربية، سرعان ما استردت عافيتها، وأعادت بناء قوتها العسكرية من جديد. وعند ذلك، أصبحت المقاومة الفلسطينية عبئاً على خططها في استعادة الأراضي التي فقدتها في حرب حزيران 1967. وبدا وجود مؤسسات المقاومة في الأردن ولبنان، أقرب إلى دولة داخل الدولة. وكان من الطبيعي أن يحدث الصدام، بين المقاومة، التي تمركزت في المدن وبين الجيش الأردني، وأن تحدث أول نكسة للمقاومة في سبتمبر/ أيلول 1970، لتنتهي بمغادرة كوادرها إلى لبنان. ولتتكرر التجربة ذاتها، مرة أخرى، وليضاف لذرائع الهجمة على المقاومة ذريعة إحداث خلل في تركيبة لبنان الديموغرافية.

هذه العوامل مجتمعة، حرضت على التوجه نحو الخيار الآخر، خيار التسوية السلمية. وجاءت الانتفاضة الباسلة، لتنقل جاذبية الصراع، من المخيمات في المنافي إلى الأراضي المحتلة عام 1967، ولتعزز من هذا الخيار، حيث الهدف الرئيسي للسكان القابعين تحت نير الاحتلال، هو نيل حريتهم.

في جنوب إفريقيا، أسهم الخيار السلمي، في إيجاد تعاطف دولي مع النضال ضد الفصل العنصري. وعزّز من ذلك، تزامن الكفاح، مع تصاعد حركة الحقوق المدنية في أميركا، وفي عدد من الدول الأوروبية. وكان مفهوم الشراكة مع المستوطنين، قد عنى ضمن التصورات التي طرحت في حينه، أن الأبعاد الاجتماعية للصراع بقيت مغيبة، وأن هدف الثورة اختزل في مناهضة الفصل العنصري فقط.

تمتعت الثورة في جنوب إفريقيا، بأرضٍ وشعب، وتعاطفٍ شعبي وإقليمي ودولي، وتخلت عن شعارات أساسية، كالمساواة والندية والتكافؤ في المسائل الاجتماعية، وأصبحت الحقوق ذات طابع سياسي محض. فتمكنت الثورة من إنجاز أهدافها المعلنة، ضمن لغة التسويات.

أما الثورة الفلسطينية، فوقعت في مشاكل عدة، أهمها أن قضيتها أصبحت متشابكة ومترابطة بتحرير الأراضي العربية، غير الفلسطينية. وقد اتجهت استراتيجية الدول العربية، في تحرير هذه الأراضي منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي، نحو التسوية، وليس الصراع المسلح.

ويبقى السؤال معلقاً، في انتظار مزيد من المناقشة والتحليل في الحديث القادم: لماذا انتصرت الثورة في جنوب إفريقيا وفشلت في فلسطين.

إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "

العدد 4129 - الخميس 26 ديسمبر 2013م الموافق 23 صفر 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً