خلال عصر النهضة الذي ساد في أوروبا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، هيمن علم تفسير الإيقونات؛ وانتشرت التماثيل التي كان أحدها يمثل شكل امرأةٍ ذات وجهين، أحدهما ملتفت إلى الماضي والآخر يتطلع إلى الحاضر؛ ماسكةً بإحدى يديها «كتاب» لسبر المعلومات، وفي الأخرى «ريشة» لتدوين «كتب جديدة». وتمثال المرأة الحسناء هذه يختصر ما يتطلبه عمل الذاكرة من التركيز على مطلبين، وهما «الوفاء للماضي»، و»المنفعة للحاضر».
أشرتُ في مقالة سابقة إلى رؤية المفكّر عبدالله العروي بأن للدولة «عقيدة وجدانية»، ومن المفيد هنا التذكير بمدلولها في ظل احتدام الجدل الناشب مؤخراً على خلفية الفتوحات والعروبة المحسّنة والاسلام الطاريء، فالعروي يرى أن العقيدة الوجدانية للدولة تعبّر عن هوية يشعر المواطنون جميعاً بالانتماء إليها والولاء لها، ويؤكد أنها لكي تتحقق لابد من وجود قدر معين من الإجماع العاطفي والوجداني والفكري بين المواطنين، وهذا الإجماع وليد التاريخ، وفي الوقت نفسه تعبير عن مصلحة حالية.
وحديث العروي يشير إلى مكوّنين رئيسيين لـ «الهوية الجامعة» التي تتبناها الدولة ويشعر المواطنون بالولاء لها هما: التاريخ المشترك والهوية المشتركة، فالعقيدة الوجدانية للدولة تقوم بتقديم ما هو مشترك بين المكوّنات الاجتماعية لصناعة الذاكرة الجماعية، ولتمكين مؤسسات الدولة من استيعاب المواطنين الذين يعملون من خلالها على تحقق مصالحهم المشتركة، وهذا ما ينتج عنه تكوّن رابطة وطنية بين أبناء المكوّنات الاجتماعية المختلفة، تساهم في خلق حالة جديدة تسمى «الأمة الوطنية».
ومنذ العام 1883 قدّمت الدولة هويةً لها، هوية صنعت الإشكال المتعلق بغياب الحس الوطني والفشل في إيجاد رابطة وطنية بين الناس، وهو ما يمكن استشعاره من زاوية النظر للمكوّنين الرئيسيين للعقيدة الوجدانية اللذين يفترض توفرهما لإيجاد حالة ولاء من المواطنين لها: التاريخ المشترك والمصلحة المشتركة.
لا يمكن للرواية التاريخية الرسمية أن تغذّي ذاكرة جماعية تقوم بخلق هوية مشتركة لعموم المواطنين، فهناك دائماً تاريخ «لهم» وتاريخ «لنا»، ولا يمكن لمن يقرأ في مادة التاريخ بالتعليم العام عن المفاهيم التي تطرحها بكل حساسياتها الدينية والمذهبية، والذي يفترض به أن يكون مساهماً رئيسياً في تشكيل الذاكرة الجماعية، فإنه لا يمكن توقع تجاوب أو تفاعل ممن يشعرون أن الرواية التاريخية تقصّيهم وتطردهم، فالراوية التاريخية المبينة على تقسيم المجتمع إلى منتصر ومنكسر، لا يمكن أن تنتج تاريخاً مشتركاً أو وعياً جماعياً لأمة وطنية.
المكوّن الرئيس الآخر للعقيدة الوجدانية للدولة هي المصلحة المشتركة، وتترجم عبر استيعاب الناس ضمن مؤسسات الدولة لتحقيق مصالح مشتركة بين عموم المواطنين، وهو ما لم يحدث. وهنا تبرز الأزمة الثانية للهوية بجانب الرواية التاريخية المنفرة.
خلال حديثه حول الفرق بين السياسي والمؤرخ، يشرح المؤرخ البلغاري تودوروف الفرق بين السياسي والمؤرخ فيقول «إن هدف الأول هو التأثير على عقل المواطنين؛ إنه لا يحتاج إلى اللجوء إلى الكذب، عليه فقط من أجل بلوغ النتيجة المرتقبة، أن يختار بعض الأحداث دوناً عن غيرها، لم يكن من مصلحة الجنرال «ديغول» تذكير الفرنسيين العام 1940 بمواقفهم الماضية التي تدل على الضعف والجبن؛ لكنه لجأ إلى إثارة قصة المناضلة جان دارك - البطلة الفرنسية التي ماتت حرقاً على يد الانجليز- لحثّهم على المقاومة. أما هدف المؤرخ فعلى العكس، لا ينحصر في تصوير الشخصيات والبطولات والمفاخر وتمجيد الأبطال والقديسين... ولكن عليه الاقتراب قدر الإمكان من الحقيقة وفي حدود إمكانياته».
لقد كشفت الأنظمة الشمولية التي انتشرت في القرن العشرين عن وجود خطر يتمثل بالاستحواذ الكلي على الذاكرة، هذا لا يعني أن أحداً في الماضي لم يكن يلجأ إلى التخلص المنظم من الوثائق، أو إلى تدمير الآثار، بهدف توجيه ذاكرة المجتمع برمته. لنأخذ مثالاً بعيداً عنّا في الزمان والمكان، فقد اجتهد المغامرون الأسبان الذين فتحوا أميركا في القرن السادس عشر بإخفاء وإحراق المعالم والآثار التي تشهد بالتاريخ العظيم لهذا الشعب المهزوم، لكنها لم تتعرض سوى لآليات الحفظ في الذاكرة، تاركةً الأشكال الأخرى على حالها، كالقصص المتناقلة والقصائد. وانطلاقاً من إدراكهم أن أمر الاستيلاء على الأراضي والبشر لا يتم إلا من خلال السيطرة على المعلومات والاتصالات، فقد عمد الطغاة في القرن العشرين إلى «التحكم المنظم بالذاكرة». بالطبع باءت أغلب هذه المحاولات بالفشل الذريع، في حين نجح بعضها الآخر في إزالة آثار الماضي بمهارة.
والنجاح في إهالة التراب على تاريخ أية أمة ونبذه وتهميشه لا يحدث إلا في ظل تهاونها في مقاومة هذه التدابير الاستبدادية.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 4126 - الإثنين 23 ديسمبر 2013م الموافق 20 صفر 1435هـ
تصويب
ومنذ العام 1883 قدّمت الدولة هويةً لها... الصواب 1783م
يقال هنا على أوربا دفع تكاليف الحروب وعدم الهروب!
قد لا يمكن السيطره على الذاكره متى ما عرف ان الشيطان شاطر وقد يسيطر على الإنسان ويكون عنده حاله أو هاله من النسيان! وهذا ليس من الأسرار فذاكرة بعض الناس قد تكون ضعيفه وقد تكون قويه! فقوة الذاكره إما وراثيه أي جينيه ولا تقوى بالتكرار فيقال هنا التكرار لا يعلم إلا الحمار- أي بمعنى تعويد على السير والوقوف الى آخره من عادات وتقاليد باليه ومهترئه لا يقال عنها هنا إلا أنه قديمه. وليس كل قديم أصيل ولا كل جديد دخيل لكن المشتكى لله وليس للناس. ويش قال جحا ظهر تخلف أروبي وفساد كما كساد وإفلاس مالي كيف؟
تزوير
إته من السهل نشر رواية لتكون تاريخا ليصدق الرواية أفراد أميون
يحتاجو ن لحدوثة تصنع لهم انتماء لأرض ليس لهم فيها جذور.
بن صالح
اقرأ تاريخنا تجد التناقض
لايرغبون بالاعتراف بتاريخ غيرهم لذلك فتراهم يسردون تاريخ مخالف ويرغبون باثباته نحن في القرن الحادي والعشرون
زبد يذهب
الزبد يذهب جفاء