العدد 4125 - الأحد 22 ديسمبر 2013م الموافق 19 صفر 1435هـ

قضية فلسطين ومشروعها الوطني النضالي

خالد وليد محمود

باحث في «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات»

اتسعت الملفات الفرعية في القضية الفلسطينية وتعقدت أوراقها إلى حد تبدو اليوم وكأنها قضايا قائمة بذاتها منسلخة عن جذرها الأساسي، القضية المركزية. وبذلك زادت كثرة التفاصيل من التعقيدات حتى بدا من الصعب على الوجدان العربي لملمتها في كتلة جامعة. ولم يقتصر هذا التشعب في القضية على ملفات الداخل، بل زادت عليها تعقيداً ملفات خارجيّة، ما دفع إلى مزيد من التشابك والتعقيد. وهو في النهاية ما جعل من الصعب على المواطن العربي العادي ملاحقة تطورات المشهد الفلسطيني بكل أبعاده.

داخلياً، عبرت القضية في تعقيدات التفصيلات الثانوية للحياة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهي ذاتها التي تراكمت وتشعبت عبر سنوات طويلة من ما يسمى «عملية السلام» ومزيد من المفاوضات. وبينما الأمر على هذه الحالة، لم تكفّ ملفات أساسية مثل القدس واللاجئين والمياه والحدود عن التعقيد هي الأخرى، بعد أن تراكمت عليها مزيد من الأحداث والتطورات عاماً بعد عام. وفي النهاية لم يتبق للمتابع العربي سوى الشعور الوجداني في القضية المركزية بشعاراتها الكبرى، لكن من بعيد.

خارجياً، فقد ورطت المتغيرات الحادة خارج الحدود سواء تلك التي تجري في مصر أو سورية وغيرها، القضية الفلسطينية بالمزيد من التعقيد إلى حد شعر فيه البعض بالحاجة إلى التذكير بقضية العرب المركزية الاولى: «القضية الفلسطينية».

المؤتمر السنوي الثاني لمراكز الأبحاث العربيّة الذي عقده «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» في الدوحة مؤخراً وعلى مدار ثلاثة أيام، تحت عنوان «قضية فلسطين ومستقبل المشروع الوطني الفلسطيني»، عمد إلى محاولة لملمة شظايا القضية الفلسطينية في مكان واحد، جمع فيه 250 شخصية سياسية وأكاديمية لإعادة إحياء فلسطين وقضيتها بعد أن انشغل العرب بتفاصيل قضاياهم المحلية. وقد قدّم في المؤتمر أكثر من 50 ورقة بحثية أكاديمية خضعت لتحكيم لجنة علمية متخصّصة تناولت مواضيع متعددة ومهمة مثل: الكولونيالية الإسرائيلية وسياساتها وأثرها في المجتمع الفلسطيني وهويّته، وتحوّلات المجتمع الفلسطيني ومؤسساته السياسية، والتحوّلات في أنماط المقاومة الفلسطينية، ومستقبل المشروع الوطني الفلسطيني وأطره التمثيلية.

وأحسب أن قيمة انعقاد مثل هكذا مؤتمر علمي أكاديمي لا تكمن في مضمونه أو حتى في هوية الجهة التي أعدته فحسب، وهي المركز العربي للأبحاث، الذي وضع القضية الفلسطينية أعلى أولويات اهتماماته وأجنداته البحثية، بل وفي توقيته أساساً، هذا التوقيت الذي هانت فيه القضية المركزية وأخذت تخبو وتندحر أكثر في ظل ثورات الربيع العربي ويحلّ محل هامش الاهتمام بها هوامش أخرى مطلبية للشعوب العربية، وانشغال بلدان تلك الشعوب بآلامها ومخاض ثوراتها وهمومها وقضاياها الداخلية وصراعاتها المذهبية التي لم تحسم بعد.

هذا ورغم ازدحام أوراق عمل المؤتمر، وتكثيف جلساته، كان يُراد للمشاركين في المؤتمر خلال طرح محاوره السير في طريق يوصل الحضور في النهاية إلى خلاصة واحدة هي البحث عن وسائل لإيجاد مشروع وطني فلسطيني نضالي، وطرح أسئلة لتجديد الحوار والنقاش بشأن مستقبل هذا المشروع، على نحو يستجيب لمقتضيات المرحلة وتأخذ فيه أساليب المقاومة والمفاوضات مكانتها المحددة بالأهداف التي تسطر لها، مع بحث أساليب جديدة والاستفادة من تجارب دولية، ومن هذه التجارب تجربة مناهضة نظام «الأبارتهايد» في جنوب أفريقيا.

في ظني أن انعقاد هذا المؤتمر الذي يعد التظاهرة الأكاديمية والسياسية الأوسع التي تتناول القضية الفلسطينية في المنطقة العربية في السنوات الأخيرة، والذي جمع فوجاً كبيراً من باحثين وأكاديميين وسياسيين وناشطين وبرلمانيين عرباً وأجانب ومتضامنين دوليين مع القضية الفلسطينية؛ يشكًل خطوة مهمة لبلورة استراتيجيّة يمكن البناء عليها في صياغة مشروع وطني فلسطيني جديد، بأدوات فعله وتعريف هويته، محلياً وعربياً وعالمياً، إذ أن محاور المؤتمر قادت المشاركين فيه أيضاً إلى طريق البحث عن مشروع نهضوي للقضية الفلسطينية يعيد تعريف الصراع وهويته إلى ما كان عليه في بداياته، لكن مع الاستفادة من تجربة عقود طويلة من الصراع. ومجدداً أيضاً، وجد المؤتمرون ضرورة صياغة مؤسسة وطنية فلسطينية واحدة، بمرجعية موحدة، تضبط فعل القوى الفلسطينية بجسم جامع، بعد أن اهترأ ثوب منظمة التحرير الفلسطينية.

ورغم وجود رؤيتين برزتا في المؤتمر، تقول أولها بإعادة تأهيل المنظمة من جديد في بناء فلسطيني ديمقراطي جديد، والثاني بإنتاج جسم جديد، ينفض عن نفسه أعباء وأمراض الجسم القديم، إلا أن ما ظهر في المؤتمر هو إجماع المشاركين فيه على أن فكرة «المرجعية الموحدة» اليوم، ليست ملحة فقط بل ومصيرية أيضاً.

من الأهمية البناء على التوصيات التي خرج بها المؤتمر كي لا تبقى القضية الفلسطينية نهباً لتجاذبات الأطراف ذات العلاقة، وقد آن الأوان اليوم لاجتراح استراتيجية جديدة يجمع عليها الشعب الفلسطيني، تتوافق ومعطياته وشروطه، وتكون كفيلة ببناء إجماع وطني خلف المشروع الوطني التحرري. وفي هذا السياق نجد أن المؤتمر قد أحسن صنعاً وهو يضع على طاولة مشاركيه وحضوره ومتابعيه أوراقاً أكاديمية علميّة محكمّة، وندوات تصدى لها الفاعلون الأساسيون اليوم في القضية الفلسطينية. وهنا يمكن الإشارة إلى الندوتين المهمتين اللتين تحدث فيهما كل من عضو اللجنة المركزية لحركة «فتح» ومسئول ملفّ المفاوضات صائب عريقات، الذي تحدّث عن «المفاوضات: الخيارات والمستقبل»، بينما تصدى للثانية مسئول العلاقات الخارجية في حركة «حماس» أسامة حمدان عن «المقاومة: الخيارات والمستقبل»، وخلصا فيهما إلى أن مساري المفاوضات والمقاومة يشتركان في هدف فلسطيني واحد هو إعادة فلسطين إلى خط الجغرافيا، وأنّ هذا الهدف لم يكن يوماً أقرب إلى التحقق مثلما هو اليوم، وأن الوحدة هي أساس الاستراتيجية الفلسطينية.

من هنا كان دقيقاً القول إنّ أهمية المؤتمر تبرز ليس في هدفه وحسب، وليس في المحاور التي تصدّى لها، لكن أيضاً في ثقل الحضور الذي شارك فيه. ونحن لا نتحدث عن الحضور الفلسطيني فقط، بل عن مسئولين ابتداءً من الصف الأول مروراً بصناع قرار في دولهم، وبحاثة وأكاديميين يعتبرون من قيادات الرأي في دولهم، إلى جانب شخصيات عامّة ودبلوماسيين وحشد كبير من وسائل الإعلام.

مسألة في غاية الأهمية تطرّق إليها المؤتمرون، وهي الخيارات المطروحة لمواجهة الاحتلال والاستيطان ممثلة بالمقاومة الشعبية التي تشكل قاعدة التقاء وتوافق وطنية عريضة لدى الشباب الفلسطيني في الضفة والقطاع والداخل، وهي المقاومة المستلهمة من ثورات الربيع العربي وأدواته الكفاحية والتي ثبت أنها ذات فعل مستمر وليس موسمياً، ولها تأثيرات تراكمية عالية باهظة المردود وقليلة التكلفة، ولنا في الحراك الشبابي الذي تشكل في أراضي 48 تحت شعار «برافر لن يمر» مثالاً واضحاً على هذه المقاومة التي يمكن من خلالها ملاحقة دولة الاحتلال في كل المحافل الدولية لنزع الشرعية عن سياساتها الكولونياليّة الاستيطانيّة التوسعيّة. وعليه، فإن المقاربة الجديدة المتمثلة في المقاومة الشعبية لا يمكن لها أن تنجح بدون بوصلة سياسية مجمع عليها من كافة الأطراف والفصائل الفلسطينية.

خلاصة القول بأنه لم يكن على طاولة مؤتمر «قضية فلسطين ومستقبل المشروع الوطني الفلسطيني» حلول سحرية لقضية فلسطين، فما حصل هو فتح صندوق النقاش، ومطالبة الجميع بالتفكير في سبل لتفكيك كل ما علق بالقضية عبر عقود من التعقيد وإعادتها إلى سيرتها الأولى، قضيةً مركزيةً ليس في الوجدان العربي والإسلامي فحسب، بل وفي الفعل اليومي أيضاً. والعمل على اجتراح استراتيجية وطنية فلسطينية نضالية بديلة واضحة المعالم ومتوافق عليها سياسياً تقوم على التمسك بخيارات المقاومة الشعبية متعددة المسارات، التي تستلهم نضالات شعوب وثورات مماثلة في التاريخ.

إقرأ أيضا لـ "خالد وليد محمود"

العدد 4125 - الأحد 22 ديسمبر 2013م الموافق 19 صفر 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً