في الكتابة عن الوقت، عربياً خصوصاً وعالمثالثياً عموماً، ضرْبٌ من الأذان في خَرِبة؛ حيث لا أحد. الحديث عن الوقت عربياً هو ضرب من الإسفاف، وقريب من اللغو والثرثرة.
هناك، ليس بعيداً منا بفعل الوسائل التي ضيّقت الهوّة وقرّبت المسافات، هو الشغْل الشاغل من حيث الممارسة والتمثّل والتطبيق. الوقت هناك بات هندسة تدرّس في الكليات والجامعات. نعم «هندسة الوقت». ببساطة لأن الإنسان، الأمم، الشعوب التي تريد أن تسجّل قيمة وتترك أثراً وتأثيراً لها لن تحقق ذلك بعيداً من الإنجاز والفعل. كل ذلك رهين بالزمن. وعاء ضروري للكائن البشري عموماً؛ ولا إنجاز ولا فعل بمعزل عنه.
وكما يُسرف العربي خصوصاً في كل شيء، بدءاً بحصّته السنوية من الماء، باعتبارها الأعلى في العالم، مع شحّ المياه في أراضيه والسماء التي تُظلّه، يُسرف أيضاً في الوقت. يريقه كما يريق المياه على مركبته ورفاهية دوّابه الأخرى! وكما يُسرف في الدماء إسرافه في المياه تلك، وفي الوقت الراهن تجاوزت الدماء بمراحل!
وبالحديث عن هندسة الوقت تلك، عمادها ومحصّلاتها الإنسان في نهاية المطاف، من مانهاتن إلى نيروبي. ستطول نتائجها ذلك الذي في هلسنكي، وحتى ذلك المستجمّ والباحث عن بكارة الطبيعة في صحراء الربْع الخالي!
***
لا أثر للوقت في البيئات العربية، انشغالاً بالمعرفة والاكتشاف والتأمل ومجاراة أبسط ما يحدث من حركة ودوران لا ينقطع في الصِلة بكل ما يجعل هذا العالم يسيراً، سهْلاً، مبْهراً مع كل اكتشاف ونظرية. في عزلة تامة عن كل ذلك. كأن بيننا وبين العالم أسواراً غير مرئية ولكنها حاضرة ومحسوسة، بمؤشرات التخلُّف هنا، ونقيضها هناك!
***
«الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك» مقولة صارت من أسخف الاستشهادات في أمة لا تحترم إنسانها كي تحترم وقته. أمة صارت مبرزة في السيوف التي تقطع الرقاب لا الوقت!
تذهب الأمم والبشرية في مجملها مشغولة بإنجازها المعرفي وهيمنتها بذلك الإنجاز والمعرفة، من دون حاملة طائرات، وقوات إنزال، هيمنة بحاجة غيرها من الأمم إليها، من دون أن تدّعي عدم حاجتها إلى غيرها في الوقت نفسه.
***
صار من مقاييس ومؤشرات تقرير وتحديد الأمم المتخلفة من المتقدّمة، أن تكون في صلْب الوقت وعَصَبه. أي انفصال عنه، هو في حقيقته انفصال عن الوجود والحضور الحقيقيين. تلك كلمة فصْل ليست من عنْديات أحد؛ بل هي من واقع عالم لا يمكن القفز على حقائقه وواقعه، بتدشين مشروعات الزوال، ومشروعات المؤقت، ومشروعات المصادفة والتباري على السخافات، والحنين إلى إنجازات ظلت في خبر كان وفي ذمة التاريخ.
***
وبالعودة إلى «الوقت كالسيف...» نجد السيف وفصائله وما ينحدر منه حاسماً في الإعمار والحيوات التي قررت مجموعات وفصائل أنها فائضة ولا لزوم لها. سيف يقصف الأعمار ويهدُّ الإعمار والعقائد التي لا تلتقي مع سفاهة فصائل ومجموعات لا يمكن بالعقليات الصدئة أن تكون على علاقة بهذا القرن أو حتى القرون التي سبقته. لا علاقة لها بالزمن أساساً.
تتأمل مشاهد حزّ وقطع الرؤوس المقدمة على قطع الوقت إنجازاً وتوظيفاً فيما يسعد الإنسان، ويجعل هذا العالم والكوكب أكثر قابلية واندفاعاً وتحمّساً لإعماره، فتتيقّن أن الفصائل والمجموعات تلك ليست عبئاً على العالم بسبب فشلها وتخلّفها وعُقَدها فحسب؛ بل هي عبءٌ على الإنسان كإنسان، ذلك الذي تنتمي إليه ظلماً وعدواناً ووهماً في الوقت نفسه!
***
نقف على مفاهيم واصطلاحات لدى الصوفيين أيضاً في ثقافتنا، ولو قُدِّر لهم أن يفعّلوها لكانوا سبقوا العالم بقرون. الوقت اصطلاحاً لديهم (الصوفيين) عبارة عن العبد. بمفهوم آخر ننعطف به. الوقت أجير لديهم. لدى الإنسان. الغرب لم يصل إلى المفهوم لأنه تخلّص من عنصريته مذ اكتشف قيمة الإنسان بعد أن اكتشف القارات وأمصال الأوبئة اكتشف قيمة الوقت ومحوريته في كل تلك التفاصيل. في علاقته مع الوقت احترام هيبة وقيمة. منه وعبْره يصل أو يتجمّد عند أول درجة صفْر من الخيبة والفشل. لدى الصوفيين عبْد. عبْد بمفاهيمنا اليوم وحتى أمس: عبد للتأمل، معطّل القيمة.
***
أجد في تأمُّل إبي يزيد البسطامي: «كنت قاعداً يوماً من الأيام فخطر لي أني شيخ الوقت»، خير دليل على أن الغرب «الكافر، النصراني، الملحد، المتفسّخ أخلاقياً، حصب جهنم» ذلك الذي لا نستغني عن دواء الصداع الذي اكتشفه والأنسولين والبنسلين، هو شيخ الوقت لو قُدِّر للبسطامي أن يكون معاصراً له، ولاتبع طريقته، ووجد ضالته لديه، هو مستغرق في الفحص والتأمل والبحث عمّا يُسعد الإنسان ويجنبه الشقاء والأوبئة والجهل.
***
كأن قتل الوقت مولِّد طبيعي لقتل محوره (الإنسان) في ظل تفاهة على مدّ الحياة بطولها وعرْضها. الإنسان ليس إنساناً في جغرافيات تحدّد عقيدتها ومفاهيمها المريضة من هو الإنسان ومن هو ما دون ذلك؛ ما يشرعن سهولة فرْمه واستباحته وإعلان قيامته. ومن قِبَل من؟ من قِبَل من لا قيامة لأتفه أطرافهم؛ عدا عقولهم!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4125 - الأحد 22 ديسمبر 2013م الموافق 19 صفر 1435هـ