العدد 4124 - السبت 21 ديسمبر 2013م الموافق 18 صفر 1435هـ

ومضات من تجربة «أيقونة الكفاح ضد العنصرية»

يوسف مكي comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

من حسن طالع الأفارقة، أن المستوطنين الأوروبيين، لم يضعوا في حسبانهم إمكانية انتصار المبادئ على القوة، وحسبوا أنفسهم أسياداً في جنوب أفريقيا إلى ما لا نهاية. فدشنوا مؤسسات حديثة، ونقلوا جنوب أفريقيا إلى عالم الصناعة.

بعد كفاح طويل مع المرض، رحل نيلسون مانديلا، أيقونة الكفاح العالمي ضد الفصل العنصري، عن عمر ناهز الخمسة والتسعين عاماً. وبوفاته، طويت صفحة من تاريخ القارة السوداء. فمانديلا هو آخر القادة العمالقة التاريخيين، الذين قادوا كفاح شعوبهم للتحرر من نير الاستعمار والعبودية، واستعادة الحرية والكرامة والاستقلال لبلدانهم.

ما ميز تجربة نيلسون مانديلا عن أقرانه، أن بلاده كانت آخر البلدان الأفريقية التي أنجزت استقلالها، وحققت ما يصبو إليه شعبها. لقد استثمر مانديلا تراكم تجربة الكفاح الوطني في القارة السوداء، ليستخلص منها طريقاً خاصاً في مواجهة الفصل العنصري الذي تنوء به بلاده. ولم تكن عصارة التجربة الأفريقية، هي كل ما لديه، فقبل سنوات قليلة من التحاقه بالمؤتمر الوطني الأفريقي، تمكن مهاتما غاندي، من قيادة درة التاج البريطاني، الهند، بعد كفاح مرير إلى بر السلام، متوّجاً مقاومته السلمية، باعتراف البريطانيين باستقلال الهند، ورحيلهم عن بلاده.

لقد أكدت تجربة غاندي، أن النضال ضد الاستعمار له روح واحدة، ولكن سبل تحقيقه، ليست بالضرورة متجانسة، وتسير وفق آلية محددة. .

اعتمدت فلسفة غاندي على رفض مبدأ «الغاية تبرر الوسيلة». الأهداف السامية والنبيلة، يلزمها التزام أخلاقي، يضع حياة الإنسان وكرامته، في أعلى سلم أولوياته. وبهذه الرؤية الإنسانية الصائبة، المستلهمة من ثقافة الهند، وموروثها التاريخي، رفض غاندي مواجهة البريطانيين بالسلاح. واعتمد المقاومة السلمية، معبّراً عنها في الاستغناء عن منتجات المستعمر، وإعادة الحياة للصناعات اليدوية، في مواجهة أحدث منتجات المصانع البريطانية. فأعيدت طريقة إنتاج الملح، وبرع الهنود مجدّداً في استخدام الطرق القديمة في صناعة النسيج.

وتعززت خطوات المقاومة السلمية في الهند، بالعصيان المدني. وكانت المقادير قد قادت مانديلا لاستيعاب نهج المقاومة السلمية في الهند. وحين تبنى هذا النمط من الكفاح، كانت حركة الحقوق المدنية، ومكافحة العنصرية بالولايات المتحدة الأميركية، بقيادة مارتن لوثر كينج، تشق طريقها بقوة، في المدن الأميركية الكبرى، وتحقق نجاحات باهرة على كل الأصعدة. ولتتوج حركة الحقوق المدنية الأميركية، بانتصارات كبرى، فرضت على إدارتي الرئيس جون كندي، والرئيس ليندون جونسون، وعلى الكونجرس الأميركي، سن قوانين تشريعية ومدنية جديدة، تجرّم التمييز العنصري، وتعيد تركيب مفهوم المواطنة، بما يتسق مع الواقع الجديد.

أسهمت هاتان التجربتان، في لفت نظر مانديلا، إلى إمكانية الربط بين الغاية والوسيلة، فكانت النتيجة تجربةً ملهمةً لشعوب العالم أجمع، بإمكانية انتصار الخير على الشر، وهزيمة حكم الأقلية على الأغلبية، وإقامة نظام جديد قائم على الندية والمساواة، وتغليب مفهوم المواطنة، وإلغاء التمييز العنصري من بلاده، إلى الأبد.

لقد استثمر نيلسون مانديلا ببراعة وذكاء، نهج المقاومة السلمية، في استقطاب تعاطف العالم حول المطالب المشروعة لشعبه. ولم يكن في حسبان المستوطنين، أن يكون التعاطف مع الأفارقة واسعاً وكبيراً، شمل معظم بلدان العالم. وقد تحوّل في نهاية المطاف مطلب القضاء على نظام الفصل العنصري، من حالة كفاحية شعبية، إلى مطلب دولي، ترك صداه على مجمل بقاع كوكبنا.

وتسلل إلى الجمعية العامة بالأمم المتحدة، ثم إلى مجلس الأمن الدولي، لتتحوّل المطالبة بمقاطعة نظام الفصل العنصري في بريتوريا، إلى مطلب شعبي ورسمي، التحقت به معظم حكومات العالم، باستثناء الكيان الغاصب واستراليا والولايات المتحدة. والمعنى واضح وجلي، فمن رفض المقاطعة هي أنظمة مارست حروب إبادة ضد الإنسانية، وشيدت بنيانها على جماجم السكان الأصليين، ولم يكن منطقياً أن تنحاز إلى قرارات مقاطعة نظام الفصل العنصري، ولتتأكد من خلال سلوكها هذا مقولة، أن الأشياء تعرف بأضدادها.

وكان من حسن طالع الأفارقة، أن المستوطنين الأوروبيين، لم يضعوا في حسبانهم إمكانية انتصار المبادئ على القوة، وحسبوا أنفسهم أسياداً في جنوب أفريقيا إلى ما لا نهاية. فدشّنوا مؤسسات حديثة، ونقلوا جنوب أفريقيا إلى عالم الصناعة، لتصبح البلاد أكثر بلدان أفريقيا تقدماً ورقياً. وفي لحظة، وبعد كفاح طويل انقلب السحر على الساحر، وأصبحت أفريقيا لأهلها. فكانت النتيجة أن الدولة الوليدة، هي من البلدان النادرة التي تحقق استقلالها، وتنزع حريتها، ولا ترث تركة اقتصادية ثقيلة.

هذا التحول الكبير، انتصار المبادئ على القوة، كان خالياً من روح الانتقام، ومن كيدية التاريخ. أصبح المستوطنون شركاء في الوطن، وتساووا مع الأفارقة، أمام القانون في الحقوق والواجبات.

انتهت معظم الأنظمة العنصرية، من عالمنا. تحرّر شعب الجزائر، من ربقة الاستعمار الفرنسي. وكان قانون المواجهة مع المستعمر، قد خضع لقانون المؤرخ البريطاني توينبي: التحدي والاستجابة، قانون الفعل ورد الفعل. كان عنف المستعمر شرساً وقاسياً ومفرطاً، وكان المستوطنون الفرنسيون يمارسون القتل العمد، والتعذيب بمختلف صنوفه، بحق الشعب الجزائري. خاض الشعب الجزائري تجربة كفاحه معمدة بالدم، اعتماداً على أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها، وقدم الملاحم تلو الملاحم، وقوافل الشهداء تتوالى، وحين أنجز الاستقلال كانت قرابين الثورة قد تخطت المليون ونصف مليون شهيد، عاد بعدها شعب الجزائر، حراً عربياً، وسيداً لنفسه، ورحل المستوطنون إلى بلدانهم يجرون أذيال الخيبة، وانتهت كذبة أن الجزائر هي امتداد طبيعي وعمق استراتيجي لفرنسا، وأنها سوف تبقى فرنسية إلى الأبد.

لم يتبق الآن على ظهر كوكبنا نظام فصل عنصري، سوى الكيان الصهيوني الغاصب، شرّد شعب فلسطين، واستولى على ممتلكات هذا الشعب، وصادر مزارعه وأراضيه. ومايزال الفصل العنصري مستمراً، يعبر عن ممارساته، بتجريف الأراضي وهدم البيوت وطرد السكان الأصليين من ديارهم.

روح المناضل نيلسون مانديلا، وتجربته الفذة، ينبغي أن تكون ملهمةً للشعوب المظلومة، وفي المقدمة شعب فلسطين، ليرسم من خلال هذه الروح المتوثبة، والعزيمة القوية، درب التحرير، فيحل السلام ولتتوهج الشمس من جديد على أرض السلام.

إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "

العدد 4124 - السبت 21 ديسمبر 2013م الموافق 18 صفر 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 7:17 ص

      أمعن النظر يا يوسف مكي

      "لم يتبق الآن على ظهر كوكبنا نظام فصل عنصري، سوى الكيان الصهيوني الغاصب" ..أمعن النظر قليلا يا يوسف مكي، وستجد أن هناك نظام عنصري طائفي يجنس ويجلب الغرباء لقمع شعبه الذين حرمهم من كل الخدمات الإسكانية والتعليمية والتوظيف..

اقرأ ايضاً