كانت الفرصة بالنسبة لي أكثر من سانحة للالتقاء بالزعيم نيلسون روليلالا مانديلا على هامش زيارته التاريخية الثالثة لمملكة البحرين في العام 2002.
وعلى رغم أن كل صحافي - بحكم التنافسية في طبيعة مهنته - يطمع في الظفر بلقاء حصري مع شخصية بارزة لصالح الصحيفة التي يعمل بها، فإنني شكرت اللحظة وقدرت الفرصة التي أتيحت أمامي، فقد كنت ضمن مجموعة من الصحافيين والمراسلين الإعلاميين الذين حظوا بشرف مقابلة الزعيم الراحل والجلوس معه خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده في فندق ميريديان (ريتز كارلتون) على هامش زيارته الثالثة (بحسب شرحه) للمنامة.
اللقاء بالزعيم المناضل نيلسون مانديلا يبعث في النفس شعوراً كبيراً بأنك أمام أحد القادة الخالدين الذين أنجبتهم القارة الإفريقية على شاكلة نكروما وباتريس لومومبا وجمال عبدالناصر، وهو شعور تكرر - بالنسبة إلي شخصيّاً - بعد التقائي في ما بعد زعيمين إفريقيين آخرين هما الزعيم السنغالي عبدالله واد (في عاصمة بلاده داكار) العام 2008، وزعيم جمهورية غانا جيري رولينغز (بمقر إقامته بالمنامة) قبل أشهر.
وعلى رغم أن الوقت المخصص للفريق الإعلامي البحريني لالتقاء ضيف البلاد مانديلا كان محدداً نظراً إلى كثرة ارتباطات الزعيم الإفريقي للاجتماع بالكثير من الشخصيات في مملكة البحرين، إلا أن الأمر كان أشبه بـ (الخبطة الصحافية) التي لا تتكرر ولا يمكن التفريط فيها ولا حتى تفويتها بالنسبة إلى العاملين في مجال الإعلام، سواء أكان إعلاماً مرئيّاً أم مقروءاً أم مسموعاً.
دخل علينا الزعيم بمشيته المعهودة ذات الخطوات المتثاقلة، صافحنا الواحد تلو الآخر مبتسماً وجادّاً، بشوشاً ومازحاً أحياناً مع البعض منا بطريقته الخاصة... دار الحوار مع نيلسون بشأن الكثير من الجوانب المحلية «نهج عاهل البلاد واستعدادات البحرين للانتخابات المقبلة» والجوانب العربية والدولية «مفاوضات السلام وموضوع الارهاب وسياسات واشنطن الاستفرادية»، كان الزعيم مانديلا طوال اللقاء مستمعاً صاغياً ومتعمقاً في تلقي واستيعاب الأسئلة وتمحيصها قبل الإجابة عليها بكل تفصيل.
فبحسب قصاصة التغطية الخبرية لمقابلته التي ماأزال أحتفظ بها، أكد مانديلا في الشأن المحلي البحريني أن «ملك البحرين رسم نقلة سياسية نوعية، وحرص على إرساء مبادىء الديمقراطية والحرية، وفتح عهداً جديداً ومشرقاً لدخول مرحلة جديدة مليئة بالآمال وزاخرة بالإنجازات».
وفي الوقت الذي أكد فيه مانديلا متانة العلاقات التي تربط بين المنامة وجوهانسبرغ في شتى مجالات التعاون، أشاد بالإصلاحات الدستورية والتحولات الديمقراطية في مملكة البحرين، معرباً عن «التقدير الشخصي الذي يكنه تجاه البحرين ومليكها»، موضحاً «أن الدستور البحريني يمنح أسساً قوية لانتخابات محلية وبلدية وانتخابات تشريعية برلمانية، وهذه خطوة متقدمة جدّاً تحتسب لجلالة ملك البحرين».
وفي الشأن العربي والدولي أبلغ مانديلا الصحافة البحرينية قوله «من وجهة نظري فإن أي زعيم عربي يتمتع بعزة النفس ليس مستعداً للتفاوض مع جهة تحتل أراض عربية»... وقال إنه شرح للرئيس الأميركي (آنذاك) بوش إنه (أي بوش) أخطأ حينما صافح شارون دون أن يصافح عرفات العام 2001!
وأضاف مانديلا: «إنه من غير المنطقي دوليّاً أن تتفرد دولة واحدة برعاية مفاوضات سلام بين الاسرائيليين والفلسطينيين؛ لأن هناك مفهوماً واحداً وواضحاً هو أن الولايات المتحدة صديق للإسرائيليين، ولهذا السبب لا يمكن أن تنفرد واشنطن بهذه القضية».
أما الموقف البحريني الرسمي من دولة جنوب إفريقيا وزعيمها مانديلا، فقد تمثل بشكل واضح وصريح من خلال تصريح سمو رئيس الوزراء فور انتهاء جلسة المباحثات الرسمية، حيث أكد سموه «أن التاريخ النضالي الطويل لمانديلا ضد العنصرية والتمييز العنصري بمثابة التاريخ الذي أصبح رمزاً يحظى بتقدير واحترام كل الدول والشعوب المحبة للسلام، ليس في إفريقيا فحسب، بل في العالم أجمع».
وأثناء المؤتمر الصحافي مع مانديلا، تعددت الأسئلة مني ومن باقي زملاء المهنة الذين أذكر منهم: محمد فاضل وعصمت الموسوي (الأيام)، محمد عمر (أخبار الخليج)، سامح عجاوي وعبدالرحمن فخري (بحرين تريبيون)، فرشتة سعيد (غلف ديلي نيوز)، عبدالرحمن أبو الفتح (وكالة أنباء البحرين)، إبراهيم نور ومبارك طاهر (وزارة الإعلام)... وبرغم كثرة الأسئلة وتنوعها، فإن ردود القائد الإفريقي كانت تشير إلى عمق ارتباطه بالحدث وغزارة إطلاعه وإلمامه بمجريات التطورات العالمية كافة.
من سياق إجابات مانديلا يتأكد للسامع وتزداد قناعاته بأن إفريقيا قارة مليئة بالخيرات والموارد ولو اصطبغت تضاريسها بالفقر والبؤس... وإفريقيا على مر العقود حبلى بالزعامات الوطنية الفذة وبالقياديين الوطنيين الذين يولدون من رحم المعاناة، فيثورون على القهر ويرفضون الظلم ويقودون شعوبهم ويجمعون كلمة عشاق الحرية على ضرورة اجتثاث الدكتاتورية والاستعباد، ويزيحون آلة البطش والتنكيل الاستعمارية فيصنعون المجد ويدخلون التاريخ فيخلّدون.
ومع نهاية اللقاء الصحافي مع الزعيم مانديلا، حامت في نفوسنا رغبة مُلحّة في التقاط صورة تذكارية معه لتسجل في التاريخ الشخصي لكل واحد منا، وأبلغنا طلبنا إلى مدير مكتبه الذي كان متواجداً بقربه، فهمس المدير في أذن الزعيم لوهلة حاملاً إليه طلبنا، ليعود بعدها إلينا موضحاً: «لا مانع من التقاط الصورة، بشرط عدم استخدام الفلاش مع الكاميرا»! فتقاطرنا خلال ثوان معدودات في صفين حول الزعيم الكبير.
وعلى الفور تبين لنا كيف أن طلب عدم استخدام فلاش الكاميرا لم يكن غريباً أو مستهجناً، فعلى ما يبدو فإن عيني الزعيم مانديلا لاتزالان تنزعجان بفعل الأضواء المباغتة، ولا تستحملان الومضات المباشرة، فهو الذي أمضي أكثر من 27 عاماً من سني عمره في زنزانة انفرادية حالكة مظلمة أراد له الحكم العنصري في بلاده أن يقبع فيها طوال سنوات اعتقاله، ليعود بعدها مانديلا لينير درب مواطنيه بفضل مشاعل الحرية وقناديل العدالة وأنوار الاستقلال!
إقرأ أيضا لـ "حافظ عبدالغفار"العدد 4120 - الثلثاء 17 ديسمبر 2013م الموافق 14 صفر 1435هـ
هل سيزور بلدنا حاليا لوكان حيا وسمع باخر تصريح لمنظمة العفو الدولية
كل التجاوزات التي حدثت سابقا وأن كانت مخفية والتي حدثت مند 3سنوات مضت وبحكم معرفتك للوضع الحالي لو سمع بها المرحوم وبقرارات المجلس الوطني والتي بصم عليها تنكيلا بشعب البحرين اقول وانا الواثق لحمل لواء مطالبة شعب البحرين بالتحول الديمقراطي بدل الحكم المطلق لأننا نعيش الوضع الذي عاشه هو..ولن يرضى أن يلمع الظلم ويقف معه