بالنسبة إلى كاتب هذه السطور تعتبر هذه الدورة المنقضية من مهرجان «كان» السينمائي الدولي، الدورة الحادية والثلاثين. كانت الدورة الأولى بالنسبة إليّ دورة العالم 1978. ثم كانت الدورات التالية مع انقطاعين أولهما كان العام 1985- والثاني العام 1998. ولعل هذا الواقع يتيح لي إمكانية المقارنة لأخلص إلى نتيجة بسيطة مفادها أن الدورة الثانية والستين من هذا المهرجان الذي يعتبر الاشهر - إن لم يكن الأقوى - في العالم بين مهرجان السينما الدولية كافة، لم يكن لا أحسن ولا أسوأ من غيره. صحيح أن الشكوى عمت من حيث خيبات الأمل التي أسفر عنها بعض الأفلام التي كانت منتظرة، ومنتظرا منها أن تحدث، مثلا، ثورة في حياة الفن السابع وحياة أفلامه، وصحيح أن النتائج في حفل الختام لم ترض كل الناس. وصحيح أن الأزمة الاقتصادية العالمية القت بظلها الكئيب على فعاليات دورة شارك فيها، من أميركا، مستقلون وليست أصحاب الأسماء التجارية الكبرى. لكن هذا كله أتى من خارج سياق المهرجان نفسه. فبالنسبة إلى الأفلام وخيبات الأمل من حولها، قد يكون علينا أن ننتظر أشهرا قبل أن نقرأ الآراء النهائية في بعض الأفلام التي تبدو، حتى الآن محيّرة. وبالنسبة إلى الحضور الأميركي وارتباطه بالأزمة الاقتصادية العالمية، قد يمكننا القول إن في الأمر مبالغة... طالما أن الاميركيين، الجديرين أن تعرض أفلامهم في المهرجان، باتوا يوزعون أنفسهم على شتى المهرجانات الأوروبية، وطالما أن الأرقام تفيد بأن السينما في حد ذاتها لصناعة وربما كفنّ أيضا تبدو من أقل القطاعات تأثرا بالأزمة العالمية. ولقد أتت الصفقات الجانبية - والأساسية - في سوق الفيلم في «كان» لتقول هذا بكل وضوح. أما بالنسبة إلى عدم رضى كثر عن النتائج واتهام رئيسة لجنة التحكيم، مباشرة أو مواربة، بأنها سايرت هذا المخرج، أو تلك الممثلة أو ذلك البلد (فرنسا تحديدا)، فهي أمور اعتدناعليها في كل عام وليس فيها من جديد. فهل يمكن لتسعة من أهل السينما ومحبيها هم اعضاء لجنة التحكيم بمن فيهم الرئيسة الفرنسية (الممثلة ايزابيل هوبير) أن يرضوا الناس جميعا؟ ومتى حدث للجنة تحكيم أن أرضت كل الناس؟
من هنا، وفي الوقت نفسه الذي لا يسع فيه المرء إلا أن يعلن رضاه - النسبي على أية حال - عن معظم النتائج التي أعلنت (من منح «السعفة الذهبية» للفيلم النمساوي الألماني «الرباط الابيض» لمايكل هانيكي، إلى منح جائزة التحكيم الخاصة إلى الانجليزية اندريا أرنولد عن «السمكة» وجائزة لجنة التحكيم الكبرى إلى «النبي» لجاك اوديار، مرورا بتتويج أفلام مثل «عدو المسيح» من خلال بطلته شارلوت غينسبرغ، و«أوغاد سفلة» من خلال بطله كريستوف وولتز، لجائزتي أفضل ممثلة وأفضل ممثل)، واستغرابه ألا يمنح، «الزمن الباقي» أية جائزة، يمكن هذا المرء أن يضع لائحة خاصة بما يتصوره أفضل ما عرض في دورة هذا العام، وفي التظاهرات كافة. ومن نافل القول أن هذا التصور شخصي، قد يلتقي النتائج النهائية، وقد يلتقي مع تفضيلات النقاد الآخرين التي أعلنت يوما بعد يوم في الصحافة المهنة... ما يعني أنها تكاد تكون خلاصة - مؤقتة في انتظار العروض التجارية لمعظم الافلام - تحاول أن تقول إن الإجماع في مثل هذه الحالات وفي مثل هذه المهرجانات مستحيل.
* في المقام الأول، بالنسبة إلى كاتب هذه السطور، يأتي مناصفة فيلم «الرباط الأبيض» وفيلم «الزمن الباقي» للفلسطيني ايلبا سلميان. صحيح أن أهمية «الرباط الأبيض» فنية وسينمائية في الدرجة الأولى (أجمل صورة بالأبيض والاسود يمكن الحصول عليها في أي فيلم منذ أزمان طويلة. على موضوع كلاسيكي المظهر) لكنه يتعامل بذكاء وقوة مع واحدة من كوارث القرن العشرين، وهي جذور الفاشية والنازية، في قرية بروتستانتية في الشمال الألماني (عشية الحرب العالمية الأولى). أما فيلم «الزمن الباقي» فإنه متعة سينمائية خالصة تأتي من فلسطين ليستكمل بها ايليا سليمان ثلاثية سيرته الذاتية التي كان بدأها مع «سجل اختفاء» (1996) ثم أكملها في جزء ثانٍ مع «يد إلهية» (2002) الذي فاز يومها بجائزة لجنة التحيكم الكبرى في «كان». هذه المرة يقدم إلينا سليمان فيلما من جزأين، يعود في الأول إلى ما قبل «سجل إخفاء» ليحكي لنا حكاية والده المقاوم ويومياته و«تاريخ ما» لضياع فلسطين، ليقدم في الثاني زمن ما بعد الفيلمين السابقين (موت الأم...) وذلك في لغة عبثية - سوريالية على خلفية ما آل إليه وضع الفلسطينيي «الغائب - الحاضر» اليوم.
* بعد هذا يأتي فيلم فلسطيني آخر هو «أميركا» لشيرين دعيبس. وهو فيلم كان يمكن ان يعرض في المسابقة الرسمية ويفوز - على الأقل بجائزة الإخراج - لولا أنه كان قد عرض سابقا في مهرجان «صاندانس» الأميركي للسينما المستقلة. في هذا الفيلم الذي قدم في «أسبوعين المخرجين» حكت لنا شيرين دعيبس في لغة بسيطة وحوارات مدهشة وأداء استثنائي من ممثلي الفلم الرئيسيين، حكاية بسيطة عن امرأة فلسطينية مطلقة تهاجر مع ابنها المراهق إلى أميركا. في ظاهره يبدو الموضوع بسيطا. لكن الفيلم في حد ذاته تحفة سينمائية من الصعب أن تروي الكلمات ميزاتها.
* الفيلم الرابع في هذه اللائحة هو «النبي» لجاك اوديار (فرنسي) الذي فاز بجائزة لجنة التحكيم الكبرى. هنا نجد أنفسنا أمام فيلم بسيط الموضوع سبق للسينما، أميركية أو غير أميركية، ان تطرقت إليه كثيرا. لكن القوة هنا ليست، أيضا، في الموضوع، بل في كيفية تقديمه: لغة كلاسيكية صارمة بأداء آثار إعجابا عاما من الشاب المغربي الأصل، بطل الفيلم، والذي يلعب دور شاب مسلم عربي أودع السجن لجريمة بسيطة فعانى داخل السجن واستضعف، حتى اللحظة التي انتمى فيها إلى العصابات الكورسيكية فيبدأ صعودا يقوم على تحول جذري في شخصيته، يبدله تماما جاعلا منه، حين يتحرر أخيرا، سيبدأ من سادة العصابات.
* كان يمكن لفيلم «عناقات محطمة» للأسباني بيدرو المودوفار، أن يحتل مكانة في اللائحة أكثر تقدما. غير أن صاحب «كل شيء عن أمي» و«العودة - بولبر»، كرر نفسه وبعض قديمه في هذا الفيلم ذي الموضوع المهم: فقدان مخرج وكاتب سينمائي بصره، إثر حادث أودى بحبيبته. لقد كان أجمل ما في هذا الفيلم أنه أتى فيلما عن السينما. لكن مشكلته أن مخرجه بدأ في جزئه الأخير وكأن ليس لديه ما يقوله، فامتلأت المشاهد بالكلام الذي يشرح وبالمواقف الميلودرامية، إلى حد شغل مشاهد من فيلم سابق لألمودوفار، دقائق عديدة من نهاية الفيلم. في المقابل قدم المخرج دورا رائعا لبينيلوبي كروز، وخلق جوا استثنائيا في معظم زمن الفيلم... لكنه طبعا خرج خالي اليدين في حفل الختام.
* في المركز السادس يأتي بالنسبة إلينا، في هذه اللائحة الخاصة فيلم كونتين تارانتينو الجديد «اوغاد سيئو السمعة» الذي كان يمكنه أن يأتي في المركز الأول، كما كان في وسعة أن يظل خارج اللائحة. فهو مثل كل عمل سابق لصاحب «كيل بيل»، فيلم يحير، يقف على حبل مشدود بين عدد من الأمور: بين الأنواع السينمائية (هل هو فيلم حربي؟ فيلم تجسس؟ فيلم تاريخي؟ فيلم هزلي؟ فيلم مغامرات...؟)، بين السخرية المطلقة حتى من فن السينما... وبين جدية القتل والعنف فيه. ترى فلم يكن سيقيّض لهذا الفيلم ان يكون الفيلم الذي ينال الحظوظ الأكبر من النجاح والجوائز (لم يحز إلا جائزة أفضل ممثل لبطله)، لو أن كم العنف المجاني فيه كان أقل؟ أفلم تكن كافية لملء حكاية الفيلم وساعتيه، موضوعة محاولة اغتيال هتلر، حين حضوره فيلما سينمائيا في باريس؟ مهما يمكن، فيلم لتارانتينو هو فيلم لتارانتينووبالتالي فيلم يعيد اختراع فن السينماء من حيث لا نتوقع... ومن هنا علينا أن نستقبله كما هو... بل إن ننحني احتراما لفن يحاول في كل لحظة ان يجدد في فن السينما.
* ما قلناه عن تارانتينو، هو - تقريبا - نفس ما يمكننا أن نقوله عن زميله لارس فون تراير... فهو أيضا في «عدو المسيح» قدم عملا محيرا... يقف على الحافة، ويشاهده المرء متسائلا: ترى لو كانت المشاهد المجانية - بعد كل شيء - في الفيلم، أقل عنفا وأقل إباحية... والثرثرة أقل، أيكون في وسع فلم يكن أن يقنع أكثر؟ طبعا لا يمكن أحدا أن يملي على الفنان ما يفعل. ونعرف أننا اعتدنا على مثل هذه الأمور مع لارس فون تراير... كما اعتاد هو أن يبدل النقاد نظرتهم إلى
اي فيلم له وتقييمهم له بعد حين... فهل سيكون هذا نصيب «عدو المسيح» الذي نالت شارلوت غينسبرغ جائزة أفضل ممثلة عنه، للعبها - المميز حقا وان يكن استفزازيا - دور الزوجة التي تفقد وزوجها طفلهما خلال ممارستهما الحب... فيعيشان الحداد في غابة مليئة بالحيوانات والظواهر الطبيعية المقلقة، ويدمران بعضهما بعضا في النهاية!
زمن المخضرمين
* في المركز الثامن يأتي ذلك الفيلم الكبير الذي يبدو أن كثيرا نسوه، عن غير حق، فيلم «تيترو» للكبير فرانسيس فورد كوبولا. لقد كان كوبولا - صاحب السعفتين الذهبيتين في الماضي - وصاحب بعض أهم وأجمل الأفلام في تاريخ السينما - «العرب» و«يوم القيامة الآن» - من الجرأة بحيث شارك بفيلم «صغير» بالأسود والأبيض مصور في الأرجنتين عن موضوع فني وعائلي، في تظاهرة ثانوية هي «أسبوعي المخرجين» والآن... ماذا لو أن «تيترو» اكتسب مكانه ومكانته بقوة خلال الشهور التالية، وجعل كثيرا يرون - كما فعل قلة خلال «كان» - بأن كوبولا إنما كان في هذا الفيلم الخاص، يحاول أن يخلق سينماه من جديد؟
* هذا ما فعله، على أية حال أيضا، كبيران من أهل سينما الأزمان السابقة: ماركو بيللوكيو الايطالي المخضرم الذي قدم من خلال «انتصار» - الذي لم يلفت للأسف أنظار لجنة التحكيم في المسابقة الرسمية - حكاية تاريخية حقيقية عن ابن غير شرعي رفض موسوليني الاعتراف به، بل سجنه مع أمه. والآن رينيه، الفرنسي الكبير أيضا، أحد أكبر ايقونات الموجة الجديدة الفرنسية، الذي قدم في «العشب المجنون» - داخل المسابقة الرسمية لكنه كرم عن عمله ككل لا عن فيلمه في حفل الختام - حكاية سوريالية عن امرأة تسرق منها حقيبة يدها. فيعثر رجل على محتويات الحقيبة، ويبدأ بالبحث عنها. لقد أتى «العشب الجنون» عملا سورياليا مجنونا مفعما بالحيوية، كما أتي «انتصار» عملا واقعيا تاريخيا قاسيا. وكانت جرأة مخرجيهما مثالية في دخول حلبة المباراة... ومن هنا نعتبر من العدل أن يرد الفيلمان في هذه الائحة ولو في المركزين التاسع والعاشر.
العدد 2463 - الخميس 04 يونيو 2009م الموافق 10 جمادى الآخرة 1430هـ