أصدرت منذ أسبوعين مؤسسة الفكر العربي العدد السادس من تقريرها التقييمي السنوي عن حال الوضع الثقافي العربي. وقد أظهر التقرير وجود إشكالية في رباعية التعليم والبحث العلمي وسوق العمل والتنمية. فمستوى التعليم في البلاد العربية يتراجع بشكل مقلق، وهذا بدوره ينعكس سلباً على نوعية وتخصصات ومستويات القوى العاملة العربية التي لا تتلاءم وحاجات سوق العمل. وما يصرف على البحوث في البلاد العربية هو أدنى من المعدل الوسطي العالمي. وبالطبع فإن النواقص الثلاث تجعل التنمية، وعلى الأخص الاقتصادية، متعثِّرة.
ويخلص التقرير إلى وجود حاجةٍ لإصلاح تلك الرباعية. وهذا استنتاج وصلت إليه الكثير من تقارير التنمية العربية عبر الكثير من السنين، ومع ذلك ظلت النواقص في ازدياد وتعثرت الكثير من محاولات الإصلاح.
إذن، أين تكمن المشكلة؟ إنها ليست في وجود مشاكل ونواقص في كل ساحة من الساحات الأربع، وإنّما في غياب إرادة وعقلية سياسية وطنية تنموية تربط السَاحات الأربع وتجعلها في خدمة بعضها البعض.
دعنا نبيِّن ما نعنيه من خلال سردٍ لتجربةٍ حدثت في الواقع، في كوريا الجنوبية. وهي تجربةٌ تظهر كيف تؤدي عملية الربط للساحات الأربع إلى نتائج مبهرة، إذا قادتها إرادة سياسية وطنية.
في مطلع الستينيات من القرن الماضي كانت كوريا الجنوبية بلداً فقيراً متخلفاً يعيش على تصدير الأسماك وبعض المعادن وألبسة ذات جودة وقيمة متواضعة. لكن قيادتها السياسية، وكانت آنذاك دكتاتورية عسكرية، قررت تحويل البلد من دولة زراعية متخلفة إلى دولة صناعية متقدمة ومنافسة. كان المدخل لذلك التحوّل هو العمل في آنٍ واحد، وبترابط وتناغم، على إحداث تغييرات جذرية في ساحات التعليم والبحوث والصناعة.
إصلاح التعليم قاد إلى تهيئة عمالةٍ متميزةٍ في مستواها العلمي والتدريبي، وبالتالي قادرة على الانخراط في خدمة المشاريع الصناعية الكبرى الجديدة من مثل صناعة الصلب والسُفن الكبيرة الحديثة في البداية، ومن مثل صناعة الإلكترونيات ذات الجودة العالمية العالية فيما بعد ذلك.
ومن أجل أن تكون تلك الصناعات ذات جودة عالمية وقادرة على المنافسة صرفت الحكومة الكورية الجنوبية مبالغ هائلة من أجل قيام مراكز بحوث مساندة ومطوّرة ومجددة للصناعة الكورية. وهكذا ترابطت بصورة محكمة عملية إصلاح التعليم مع عملية تطوير البحوث العلمية والتكنولوجية مع عملية إصلاح سوق العمالة، لتصبَّ جميعها في خدمة نهضة صناعية كبرى.
بتلك الإرادة العقلانية السياسية المخطّطة جرت إصلاحات شاملة في وقت واحد، ومن أجل أهداف تنموية محدّدة، أدت إلى خروج كوريا الجنوبية من العالم الثالث المتخلف إلى العالم الأول الصناعي المتقدم خلال ثلاثين عاماً.
وإذن، إذا عدنا إلى الأرض العربية، إلى عشرات التقارير التي تتحدث عن فواجع في ساحات التعليم والبحوث وسوق العمل والتخلف التنموي، فإن الجواب لن يكون بإجراء إصلاحٍ محددٍ هنا أو تغييرٍ شكلي هناك، وإنّما بوجود مشروع وطني ستخدمه تلك الحقول من بعد إصلاحها.
قلب الموضوع إذن هو وجود إرادة وطنية تبني مشروعاً وطنياً تنموياً يستفيد استفادة إيجابية إبداعية من منتجات التعليم الجيد ومن نتائج البحوث المرتبطة بحاجات المجتمع. وهي إرادةٌ وطنيةٌ ستقوم بوضع استراتيجية تؤدي إلى تغييرات كبرى في بنية الاقتصاد ليكون اقتصاداً إنتاجياً ومعرفياً وخدمياً رفيع المستوى وذا توجّه إنساني وغير خاضعٍ لأهواء قلة فاسدة جشعة. وهي إرادة وطنية ستلعب دور المساند والمحفز والحامي لذلك المشروع التنموي الوطني إلى أن يقوم على رجله ويصبح منافساً في ساحات العولمة.
وبالتالي فإنها إرادة وطنية لا تخضع لإملاءات مؤسسات الخارج التي تخدم الرأسمالية العولمية المتوحشة حتى ولو جاءت على حساب المصالح الوطنية المشروعة.
هنا، دعنا نكن صريحين فنقول بأن وجود هكذا إرادة وطنية عقلانية مخططة قادرة على الاستفادة من تلك الإصلاحات المطلوبة في رباعية التعليم والبحث وسوق العمل والتنمية... إن وجود هكذا إرادة غير متوافرة حالياً في أرض العرب. لهذا السبب تمرُّ السنون دون أن تجد تقارير التنمية والثقافة من يستفيد منها ويحوّل توصياتها إلى فعل في الواقع.
لقد توفرت مثل تلك الإرادة بتلك المواصفات، باستراتيجية تنموية واضحة المعالم، في كوريا الجنوبية فنجحت في النهوض. والأمل في أن تنتج ثورات وحراكات الربيع في النهاية العربي مثل هكذا إرادة عربية قادرة على النهوض. إنه أملٌ يجب أن نعمل من أجله مهما كثرت العقبات والتحديات.
إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"العدد 4115 - الخميس 12 ديسمبر 2013م الموافق 09 صفر 1435هـ
صراحه
صراحه دكتور كلامك من ذهب لاكن اهنى المسؤلون اهمشى عندهم تجميع المال ولايريدون للبلد الخير همها علفها لقد عاد العرب الى جاهليتهم واستحود الشر على نفوسهم اعمالهم كله شريه الخير نسوه المشتكى لله والله ياخد الحق المسلوب
لست متشائم
شكرا لك دكتور ولكن في البحرين اصبحت سياسة قتل القيادات والإدارات الوطنية واستبدالها بأخرى أجنبية