رَحَلَ نيلسون مانديلا. حسناً، ماذا بعد؟ أعلِنَ أنه سيشارك في جنازته ثلاثة وخمسون رئيس دولة وحكومة (أو أكثر) بينهم الأميركي باراك أوباما والفرنسي فرانسوا هولاند. وماذا أيضاً؟ لقد ارتبط اسم مانديلا بسجن جزيرة روبن، وبالعمل فيه لمدة ثماني عشرة ساعة يومياً.
وماذا كذلك؟ أولاده من الذكور هم ثيمبي، ماكغاتو، ومن الإناث: بوملا، مكازيوي، زيناني وزينزي. ثم؟ رفيقات دربه من النساء هن: ايفلين ماس، ونومزامو وينيفرد ماديكيزيلا، ومابوتو غراسا ماشيل. لا أعتقد أن كل تلك الأمور تعنينا اليوم ونحن نؤبِّن مانديلاً كرجل نضال لا يُنسَى.
ورغم أنه عاش خمسة وتسعين عاماً، قضى منها ستة وأربعين عاماً قبل دخوله السجن، ثم سبعة وعشرين عاماً في زنزانة، ثم اثنين وعشرين عاماً ما بين الرئاسة وشئون الحكم والمجتمع، والحياة الخاصة ثم المرض لمدة ثلاثة أعوام، حتى قضى نحبه، إلاَّ أن تلك الأيام الـ34675 التي تتوزع عليها كل تلك الحقب، لا تعني شيئاً دون فهم فعلها وحركتها الذي اختُتِمَت بها حياة الرجل السياسية والاجتماعية والفكرية.
لذا، فإن السؤال الأهم هو: كيف نشَّأ مانديلا مزاجه السياسي، وهو يكتنز بذاكرة ملؤها الصور لشعبه وهو يُهان، ويُميَّز ضده في التعليم والصحة والسكن، ولا يُمنح حقوقاً سياسية من انتخاب وترشُّح ومراقبة وتشريع وأضرابه، فضلاً عن عمليات الإعدام والقتل خارج القانون، التي كانت تجري بحق السُّود في جنوب إفريقيا وكأنهم وزن زائد.
كيف استطاع أن يضبط إيقاع التعايش بعد السابع والعشرين من أبريل/ نيسان من العام 1994، عندما أجرِيَت أول انتخابات تشريعية، تحت شعار «إنسان واحد، صوت واحد» لتنهي بذلك حكماً من الفصل العنصري، استمر لثلاثة قرون، تحكَّم فيه 13 في المئة من البيض في 87 في المئة من السود (رغم أن النسبة كانت أكثر اختلالاً في القرنين الأوليين).
في تلك الفترة من التحوُّل الديمقراطي، كان الجميع حابساً لأنفاسه. وكان المتطرفون البيض، يطالبون حينها بإنشاء دولة مستقلة لهم «تفادياً للانزلاق في مستنقع حروب أهلية» وخوفاً من عمليات الانتقام المتراكمة من السُّود منذ ثلاث مئة عام خلت.
بل حتى قبائل الزولو المتمثلين في حركة الـ «اينكاثا» بزعامة منغوسوتو باثيليزي والتي كانت تناصر البيض في قمعهم لبني جلدتهم، طالبت بـ «اعتماد نظام كونفدرالي» كي يفرزهم عن قبائل الهوسا التي ينتمي إليها مانديلا! كان الأمر غاية في التعقيد والتوجُّس.
ثلاثة قرون من الفصل العنصري، خَلَقَت نظاماً متداخلاً للمصالح، وشبكة غائرة من الفساد والمافيات، تحوَّلت شيئاً فشيئاً إلى قوة ضغط على الدولة، وعلى آخر رئيس حكومة عنصرية في جنوب إفريقيا فريدريك دوكليرك، وبالتالي على التسويات التي كانت تُطبَخ لإلغاء نظام الأبارتيد.
لقد قام العنصريون البيض في الشرطة والجيش بتدريب مرتزقة من الـ «اينكاثا»، وموَّلوهم بالمال، وقاموا بمذابح في سيبوكينغ، وذلك لإشباع الرأي العام في الأكثرية السوداء بحالةٍ من الانهزام الذاتي تجاه التغيير، وبالتالي الانقلاب على فكرة التحوُّل عبر إعاقته عملياً ونفسياً.
وقد كشفت الوثائق الأخيرة، أن السعي نحو شق حركة السُّود في جنوب إفريقيا، كانت تدعمها جماعات في الولايات المتحدة الأميركية، وكذلك في ألمانيا (عبر مؤسسة كونراد أديناور). بل حتى بريطانيا كانت تدعم ذلك بحجَّة الخوف من «ماركسية» حزب المؤتمر الوطني، لذا، فقد قامت رئيسة الوزراء البريطانية حينها مارغريت تاتشر باستقبال باثيليزي منافس مانديلا، كما كان يذكر ذلك أنتوني سامبسون في السيرة الموثقة.
في المحصلة، كان الأمر معقداً للغاية. أطراف متخاصمة، وأخرى مُستولَدة من بعضها، مع مصالح وخيارات وبرامج متداخلة، والأهم، هي مآسي السُّود ونظرتهم لضرورة القصاص من البيض، ومن مناصريهم من الزولو. كيف يُمكن استيعاب ذلك؟
الحقيقة، أن الموضوع كان يحتاج إلى قيم سياسية وأخلاقية، ولاحقاً تفاوضية غاية في التضحية والإيثار. كان مانديلا يسعى إلى هدف مُحدَّد في مفاوضاته بشأن الديمقراطية: تأكد من أن الطرف الآخر لا يشعر بأنه خسر (وهم البيض). تخيَّلوا، أن همَّه كان أن يُشعِر جلاديه وحاضنتهم الشعبية بالأمان قبل شعبه المظلوم الذي ينتمي إليه!
ربما كان ذلك شيئاً من السذاجة والإفراط في التنازلات! كثيرون كانوا يرون ذلك، وقالوه جهاراً. في المحصلة أمَّن مانديلا غطاءً سياسياً وقانونياً للأقلية البيضاء! كان الأمر أشبه بالمشي فوق جماجم أهله من المسحوقين دون شعور! لكنه فَعَلَ ذلك بقلبٍ يعتصر، وعينٍ دامِعة؛ لأن هدفه كان أن يرى جنوب إفريقيا ديمقراطية، حتى لو داس على قلبه.
لقد مضى نيلسون مانديلا في هذا الطريق كي يرى بلاده كما هي الآن. لقد فعل الكثير كي يرى المستقبل، ويدير ظهره للماضي. كان يطمح أن يحصل إيد مايرز (الأبيض) وأندريه مهالونجو (الأسوَد) على حقيهما في مزرعة ولفرداين. كان لا يريد أن يضع حجراً بأيدٍ مرتعشة، ترغب في طعنة على رقبة رجل أبيض، قَتَلَ صبياً أسود على الرصيف بدم بارد، أو سامَ عائلة من الهوسا كالقطيع، أو كَتَبَ على حافلة، ممنوع دخول السُّود والكلاب!
أختم هنا بالإجابة على عنوان هذه المقالة. ففي إحدى المرات ذهب مانديلا (والحكم العنصري ينهار) إلى البرلمان للتشاور حول الدستور الجديد، وبدأ في مصافحة الحضور. وفجأة، رأى كريستو براند! حيَّاه مانديلا بحرارة أمام الجميع، ثم قال: «أتعلمون من هذا الشخص؟ كان هذا السَّجَّان الخاص بي، بالأحرى، كان صديقي». هل يُعقَل؟ نعم يُعقَل مثل هذا في حضرة مانديلا!
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4114 - الأربعاء 11 ديسمبر 2013م الموافق 08 صفر 1435هـ
جنوب افريقيا
حتى لو بقيت جنوب افريقيا تعاني من مشاكل نتيجة السياسات العنصرية القديمة الا أن السود باتوا يشعرون بكرامتهم وقدرتهم على التحدث فضلا عن المشاركة في الحكم
عبرة
الحياة مليئة بالعبر والدروس فهل من متعظ!!
الاحرار لا ينتقمون
الانتقام لا يوّلد حياة بل دمار
لا ياحبيبي
لاتقول هالحجي الاحرار ماينتقمون بل الحر هو الذي ينتقم ويتار لنفسه اعفو عن الاشياء المعقولة اما يقتل ولدي وتعال لاتنتقم هذا حجي ماكول خيره والله لو اظفر بمن قتله لمزقته
سلمت أنا ملك
واصل الإبداع ،،، قلمك رائع في تناول المواضيع
3000 من امثاله قابعون في السجون
صبية نساء شباب كهول شيوخ كل اصناف الشعب المتشابهون مع هذا الرجل في نضاله موجودون الآن خلف القضبان ووراء جدران السجون يعانون مثل ما عانى هذا المناضل الشريف ومن بالخارج كل ينتظر دوره للدخول الى المعتقلات ان لم يكن اليوم فغدا فهذا مصير شعب آلا على نفسه الا شق طريق النضال
لدينا نلاسن كثيرة في السجون
مو نيلسون واحد ولا اثنين في البحرين بل نلاسن من صبية وشباب وكهول بل ونساء ايضا كلهن وكلهم يمثل نفس النهج والخط ويسير على درب النضال و............ وستبقى هامة المناضلين شامخة
كاتب مبدع
يزخر المقال بالإبداع والفائدة
انتظر مقالاتك بشوق
اقف اجلالا لهذا الرجل المضحي وفي المقابل يوجد لدينا رجل مثله
وهو سماحة الشيخ علي سلمان وان كنت اعارضه في سياساته لانه يميل الى مايميل اليه مانديلا واتذكر مرة قال انا اصفح عن من ظلمني وهو يسعى جاهدا الى نسيان الماضي من قتل وسجن وتمييز وغيرها من الظلم في سبيل الحصول على الديمقراطية وليتني احمل قلبه فانا اميل الى الانتقام ممن ظلمني وغصب حقي وقتل فلذة كبدي ولا زلت اعيش تلك الحسرة شاب لم يتجاوز 21 ربيعا كان ينوي الزواج فرحل من هذه الدنيا كما رحل غيره من شباب الوطن
فهل هذا ينسى يا استاذ محمد ؟؟؟؟
ليش المبالغه
في فرق السماء من الارض
هدهد
التنوع في بحر الافكار وماتحىويه من درر قابعتاً في اغوار الكاتب ينبيك عن المعدن الاصل الذي تختاره الصحيفة فهي تحوي معادن ثمينه فالله ذرها
تحياتي
تعجبني صحيفة الوسط لما تتضمنه لمثل هذه المقالات المفيدة والرائعة التي تزخر بها شكرا عزيزي محمد على هذا الإبداع