الأفراد والجماعات وحتى الدول حين تخطط ليومها فقط، تعتمد في ذلك على المقبل من أيامها بمنطق المصادفة. مع الأفراد والجماعات لا سلامة ولا ضمان في الأمر. مع الدول هو نوع من تبنّي الكارثة والاستعداد لاعتناقها ورعايتها والإنفاق عليها!
ماذا يعني ذلك؟ نتحدث عن الارتجال في القرارات المصيرية. القرارات التي لا يصلح أن تستغرق لحظة أو لحظات من انفعال وتنفق عليها ملايين الدولارات، لتدفع ثمنها شعوب تهدد في مستقبلها واستقرارها وخياراتها.
تعلّمنا منذ الصغر أن «الاتحاد قوة»... ولم يعلّمنا أحد، على الأقل في ذلك الزمن الذي كان جميلاً نوعاً ما، أن «التآمر قوة»! ولن تحتاج إلى عظيم جهد كي تكتشف الفارق بينهما. كما لم يعلّمنا أحد وقتها أن سلْق «الوحدات» وارتجالها فخ من الفخاخ التي لها آلام بالسقوط فيه، وربما تكون آلام الخروج منه لا تقل عن دخوله.
***
منذ نهايات العقد الخامس من القرن العشرين ودول أوروبا تشتغل على صيغة الاتحاد بعد حرب طاحنة أكلت الأخضر واليابس. في أوروبا طوائف أيضاً.
وضحاياها في التاريخ يتجاوز ما سقط من قتلى في الشرق يوم كان نموذجياً حتى في تهوّره وجنونه. ذلك قبل أن يرفع بعض العرب يافطات الترحيب بالمحتل في العام 2003، وفتح الحدود والأجواء له في امتنان بالغ. لكن أوروبا ظلت في توجهها لإقامة كيان فاعل ومؤثر بحجم اقتصاداته وصناعاته المحورية وإحدى مراكزها على خريطة العالم، لغة الإنجاز والأرقام هي الفيصل.
في العام 1992، شكّلت القوة الصناعية والاقتصاد عموماً عصب ورقم العالم الصعب. العرب ما قبل وما بعد وإلى الآن مشغولون بآخر صرعات الانحراف الذي أحلّوه لأنفسهم، في خليط عجيب بين الواجهات باسم الله، وممارسة للشيطان على الأرض يقوم بها بشر!
28 دولة هي الكيان الحالي للاتحاد الأوروبي. لا مكان للطوائف والتخوّف منها. التاريخ هو الآخر صار وراء ظهورها. لو انشغلت به لما استطاع سائح أجنبي في دولها أن يمشي بارتياح لفرْطِ الوحْل والمجاري الطافحة، والأمطار (رسُل كشف الفساد)، كما هو الحال في أغنى الدول وأكثرها امتلاكاً للثروات الطبيعية!
ومع ذلك تعاني اليوم من تهديد لتفكّك بنيْتها لا بسبب التباين الهائل في الثقافة والفروقات في العقيدة التي لم تكن مرتكز أساسياً لها في التوجه نحو الاتحاد. تعاني بسبب تباين وفروقات في الإمكانات الاقتصادية. نتحدث عن دول في طريقها إلى الإفلاس، ليست اليونان الشاهد المريع في هذا الأمر، هنالك دول في الاتحاد في الطريق إلى ما حدث لليونان، على رغم مئات مليارات اليوروهات التي تم حقْنها في شرايين اقتصادات تلك الدول.
من دون تفاصيل مملة. لم يقم الاتحاد للتصدي لتكتلات وقوى تم توهّمها وترويج تهديدها بين العوام.
***
وبالعودة إلى التاريخ، قامت فكرة الاتحاد الأوروبي بعد حرب من دون خشية من كيان بروتستانتي أو أرثوذكسي. لدينا تاريخ لابد من العودة إليه.
في العام 1979 تولى صدام حسين رئاسة العراق بعد تنازل أحمد حسن البكر عن السلطة. وفي العام نفسه قامت الثورة الإسلامية في إيران.
في 25 مايو/أيار 1981 توصل قادة كل من الإمارات ودولة البحرين (وقتها) والسعودية وعُمان وقطر والكويت في اجتماع عقد في أبوظبي إلى صيغة تعاون تضم الدول الست تهدف إلى تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بين دولهم في جميع الميادين وصولاً إلى وحدتها.
بين قيام المجلس ووصول حزب البعث عامان. لا نتحدث عن عقود من التخطيط والتفكير في الصيَغ. كيان يقوم على تخوّف، لم ينجز لشعوبه شيئاً يذكر.
أتكلم عن القاعدة العريضة المنسية. الحقوق في تراجع. الفساد في ازدياد.
القانون له ظروف مزاجه ومدى رؤيته بحسب الذين يمْثلون أمامه. الوحدة النقدية منذ قيام الاتحاد تدخل عامها الثاني والثلاثين. التعرفة الجمركية لغز يحتاج إلى أولي القوة كي يفك مستحيلاته. الاستهلاك هو ما يمكن الفخر به بين الأمم، وإذا أضفنا اللعب بنار الطوائف الذي صار في قمة الأولويات، فنحن نتحدث هنا عن مشاريع لأخذ الجماهير في نزهة مدفوعة التكاليف إلى جهنم من دون عودة!
***
كيان قام تخوّفاً من بروز قوة انبثقت عن خيار شعب في المنطقة. سببت صداعاً وكانت «الرصاصة التي انطلقت من القرن الهجري الأول واستقرت في صدر القرن العشرين»، بحسب تعبير الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل. لم يكُ مثل ذلك الصداع وارداً أيام هيمنة شاه إيران على مقاليد الأمور في المنطقة.
القوة الجديدة الأخرى وإن في وجهة دموية كانت بوصول صدام حسين إلى السلْطة. ثمة خشية بالتأكيد ولكنها خارج حسابات الإخوة في جانب الوساوس.
تم تشحيم آلته الجهنمية في حربه مع إيران اطمئناناً إلى أنه حارس البوابة الشرقية. البوابة نفسها كان منها الغدْر غزواً للكويت ونفاذ الصواريخ إلى المنطقة!
بالعودة إلى الاتحاد الأوروبي. بريطانيا جزء منه باستثناء رفضها الدخول في الوحدة النقدية وإلى الآن. لم نسمع صوتاً من أوروبا يخوّن ويكيل التهم لبريطانيا لأنها رفضت اللحاق بالعملة الموحدة: اليورو.
من جانب منطقتنا اشتغلت المكنة الإعلامية ضد دولة شقيقة لأن سياستها لا تعرف الختل واللعب من تحت الطاولة والتعاطي بعشرات الوجوه؛ وخصوصاً في القضايا المرتبطة بالمصير، لا بالهوس والعُقد والاشتغال على وساوس التاريخ!
قبل أسابيع كان العالم مهدّداً بحرب كونية أخرى. جاء الاتفاق النووي الإيراني لينزع فتيل حرب وشيكة. استمرار الملف السوري مفتوحاً؛ والتمويل العابر للحدود، وفتح الحدود أمام الإرهابيين كي يقوموا بالأدوار لا يترك متر طمأنينة لدى المصابين بالهَوَس والوساوس.
علينا أن نتذكّر: 33 عاماً وعلى رغم احتلال الكويت من قبل صدام؛ ظلت صيغة مجلس التعاون قريبة من صيغة العلاقات العامة! وعلينا أن نفهم أنه مع الاتفاق النووي صار التوجه إلى الاتحاد هذه المرة ليس تحصيناً للأعضاء بقدر ما هو تخوّف من تغيّر في الأولويات الدولية معنيّة بها دول دون أخرى!
أخرجوا ملفات الأزمات في كل من: البحرين، العراق، سورية، لبنان، والاتفاق النووي الإيراني، ولن تجد مخلوقاً يتحدث عن فارق التوقيت في المنطقة؛ عدا الهرولة لطبخ اتحاد تحُول بينه وبين صموده وفاعليته فوارق الممارسة السياسية والنظر إلى ثوابت الحقوق والاشتغال بالتنمية!
وإذا استطعتم التحكم في العودة بالزمن: أرجعوا الشاه إلى الحياة الذي تحكّم في الإقليم. أوقفوا عشرات المليارات التي تم ضخها في الآلة الجهنمية لصدام حسين. أوقفوا الغزو العراقي للكويت، ستتضح التباينات في الإقليم والنفور. ذلك ما لا يتحدث عنه الإعلام!
نحن إزاء «اتحاد» فرضته نتائج التخبّط وربيع غير مهجّن!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4114 - الأربعاء 11 ديسمبر 2013م الموافق 08 صفر 1435هـ
تخطيط وإصرار لتدمير المجتمع
بالطائفية وبالخزعبلات القبلية... وتحويل الدول الى مغانم نهجها مفهوم الاسرة الواحدة وشرعيتها نعاج تساق الى المذبحة رغما عنها..... وعندما فشل المخطط طرأت لهم فكرة الاتحاد بالرغم من وجود سنوات تزيد عن الثلاثون عاما من فشل وتخبط.
33 دورة تعقد ولم يتطرقوا مرة واحدة لحقوق الانسان والمواطن
كل ما يدور في هذه الاروقة هو لتحصين الانظمة فقط ولا يوجد دور لذكر المواطن واستحقاقاته فماذا تتوقع من مجلس هذا مبلغ همه
المختار الثقفي
لقد أسمعت لو ناديت حيـا
ولكــــن لا حياة لمن تنادي
ولو نار نفخت بها أضاءت
ولكـــن أنت تنفخ في رماد
فعلا ينطبق عليهم قول الشاعر، فهو يمثل الحقيقة كل الحقيقة، فأمثال هؤلاء ليسوا احياء بما للحياة من معاني السمو والرفعة، نعم فهم ليسوا رمادا وإنما هم تحت الرماد...
تحياتي
الاتحاد
الاتحاد اذا كان لمصلحة الشعب فاهلا ومرحبا به ولكن اذا كان ضد الشعب فاكيد غير مرحب به. اصلا هم لم ياخذو راي شعوبهم في هذا الاتحاد.
شكرا لك استاذي
لقد مسكت المشكله من لجامها.. و وضحت مفارقاتها.. شكرا على المقال الجميل.
مقالك في الصميم
مقال جميل استاذ جعفر