لمنامة - حبيب حيدر
في جولة ثقافية منتقلا من بيت الشعر إلى جامعة البحرين ثم الصالة الثقافية قدم أستاذ النقد والنظرية بجامعة الملك سعود الناقد عبدالله الغذامي مجموعة من الحوارات والمحاضرات، وكعادته كلما حضر الغذامي إلى البحرين راح يراهن على الجيل المثقف في حمل رسالة جديدة يطلقها ويقدمها مغريا بها المتنبين كمسوّق ممتاز للأفكار والرؤى التي تلوح له وتجد صداها عند البحرينيين دائما كمتلقين ومسوقين منتجين جيدين لأفكاره ورؤاه.
إذ انطلق الغذامي من بيت الشعر ليحاوره مجموعة من طلبة الإعلام بجامعة البحرين في كتابه (الثقافة التلفزيونية)، ثم قدم محاضرة بالصالة الثقافية حول القبيلة وما بعد الحداثة، وفي جامعة البحرين بالصخير كانت حواريته حول مناهج النقد الحديث.
وفي بداية محاضرته بالصالة الثقافية حول القبيلة وما بعد الحداثة راح الغذامي يرهن على الجيل الجديد في الثقافة كما راهن عليه منذ سنين في مشروع النقد الثقافي، وهاهو يعيد الكرة مرة أخرى، بقوله «أحس في البحرين بأمان، هي رئتي وأنتم هوائي الذي أتنفسه هنا بأمان، أراهن على البحرين كمرجعية ثقافية، وقد رأيت المستقبل في البحرين، فمنذ عشرين سنة راهنت على جيل التسعينيات في النقد الثقافي فلم يخيبوا ظنا وبقوا أملا واعدا... وقد ظلت للبحرين عندي صورة عميقة، فمنذ الطفولة وهي بالنسبة لي قريبة كبنت الجيران في صورة سيكلوجية عميقة، وكلما جئتها أزداد حسا بالمستقبل».
وعن تزامن زيارته الثقافية للبحرين باختتام رحلته العملية في الجامعة، وقرب تقاعده عبّر الغذامي عن سعادته بذلك بالقول «مازلت أشعر أنني اسمي وأنني عبدالله وإن حاولوا سلبه مني، وكنت أرجح أن أختتم رحلتي بمحاضرة في جامعة الإمام محمد بن سعود وقد كنت خريجها، ولكن المحاضرة ألغيت لأمر ما، وإنه من حسن الطالع أن تتوّج آخر شهوري العملية بهذه الزيارة الثقافية للبحرين وهي تعني الكثير وإنه لفأل حسن بالنسبة لي.
وبعدها خصص الغذامي حديثه عن القبيلة والقبائلية وهويات ما بعد الحداثة، وأشار إلى أن سؤال الهوية في السابق لم يكن مطروحا لأنه حينها كانت الناس تعيش محليتها ولكن حين ينتقل الإنسان ويكون هناك التواصل أو يحضر الآخر يظهر سؤال الهوية.
وسؤال من أنت؟ من نحن؟ هل أنت محلي؟ سؤال جديد طرح في الثقافات، وصار يفرض نفسه بحثيا واجتماعيا فهو سؤال تبتكره الثقافات، ثم يتحول من سؤال هامشي إلى سؤال عن المعنى الضروري التداولي ففي البداية يبدو سؤالا ترفيا ثم يتحول إلى سؤال ضروري، وهوية المرأ لا تأخذ معناها إلا باختلافها مع الآخر، فبما أنني مختلف، فأنا متميز عنه، وبما أنني متميز، فأنا غيري، وهو أقل مني وأنا أعلى وأفضل، وبما أنه ليس مثلي، فأنا غيره، وهكذا تتناسل الأسئلة والاستنتاجات والنتيجة أن الذات لا تعرف نفسها إلا بنفي الآخر.
ثم تحدّث الغذامي عن الأسلة الكبرى التي عادة نظن أن الحلول عندها ومنها العلم والدين وهما لا يستطيعان حل هذه الفروقات لأننا لو سألنا المقياس الديني والعلمي فهل سيجيبان عنها في الوقت الذي تقوم قوى أخرى بالإجابة على هذه الأسئلة؟ فثمة قوى تستخدم الدين والعلم والعقل في تثبيت هذه الفروقات.
وأشار إلى أن البشر عادة يصنعون المعاني ويعبدونها، فمع الزمن وتواتر المعنى يتحكم المعنى في الإنسان حتى يصبح المعنى قاتلا واستشهد بحكاية قاتل صاحب سالم الذي تحول فيما بعد إلى قاتل سالم نفسه من كثرة ما ردد الناس الكناية.
وحول رؤية الغذامي لسيكلوجيا النفس العربية وأنساقها الأساسية التي تصنع المعنى، قسم الغذامي النفس العربية إلى ثلاث نفوس الأولى النفس المرة، ثم النفس الحزينة، ثم النفس السوية واستخدم شاهدا شعريا، لكل نفس باعتبار أن الشعر يكشف ثقافيا عن نسق خفي، فالنفس المرة مثلتها لامية الشنفرى وهي لامية العرب وهذه الإضافة تمثل رمزا ثقافيا دالا بما لها من موقع مهم عند المدونين القدماء وشهرة في الوسط الحداثي، وهنا اختلف الغذامي مع ما تذهب إليه في الحداثة العربية من اعتبار قصيدة الشنفرى قصيدة تمثل الثورة والتمرد، فما هي في رأيه إلا إيغال في الرجعية قيم النسق الشراني، بل هي تؤسس لمزيد من رجعية الإنسان، فقد نسب الشاعر الصفات النسقية للمجموعة التي رحل عنها إلى نفسه، وعاد من حيث أتى، لقد هرب من قومه واستعاض عنهم بالحيوانات، ولكنه نسب نفس الصفات النسقية التي تمجد ظلم الجماعة مرة أخرى لهذه المجموعة الجديدة التي ينتمي إليها في قوله «ولا الجاني بما جر يخذل» وهي علامة نسقية واضحة جدا على النسق الجماعة، والنفس المتوحشة فلا حساب على الجناية بل انتصار لها حيث يحمي القوم الجدد الجاني الظالم.
وأضاف الغذامي وإن مقدار بث هذه القصيدة وتقبلها عربيا يعكس تبني هذا النسق، وإن قانون الفكر العربي النسقي يكملها بأبيات أخرى هي «قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم - طاروا إليه زرافات ووحدانا. لا يسألون أخاهم حين يندبهم - في النائبات على ما قال برهانا. وهي قصيدة تتكامل مع قصيدة الشنفرى في جعل الشر والعنف قانونا أساسيا. حيث الشر قيمة عليا والصعاليك وإن كانوا خارجين عن نسق الجماعة إلا أنهم يعززون النسق الشراني المتوحش من الثقافة مرة أخرى.
والنموذج الثاني قصيدة المثقب العبدي ذات الدلالات النسقية على النفس الرومنسية «أفاطم قبل بينك متعيني- ومنعك ماسألتك أن تبيني. ولا تعدي مواعد كاذبات- تمر بها رياح الصيف دوني. فإني لو تخالفني شمالي- لما أتبعتها أبدا يميني. إذن لقطعتها ولقلت بيني- كذلك اجتوي من يجتويني. أكل الدهر حل وارتحال- فما يبقي علي ولا يقيني. فإما أن تكون أخي بحق- فأعرف منك غثي من سميني. وإلا فاطرحني واتخذني- عدوا أتقيك وتتقيني. وما أدري إذا يممت وجها- أريد الخير أيهما يليني. أ الخير الذي أنا أبتغيه- أم الشر الذي هو يبتغيني. حيث نرددها من غير وعي دائما ومن دون أن نعي الجانب اللاإنساني منها، ولو فكرنا بدقة في هذه الثنائية القاتلة «الخير، والشر» فلن نجد لها مثلا، فليس هناك شر مطلق ولا خير مطلق وليس هناك من إنسان يمثلها ويكون كبقية خلق الله. حيث النموذج الرومنسي الذي لا يفكر إلا بذاته.
وأضاف الغذامي أما النموذج الثالث في استعراض الهويات الثقافية فهو النفس السوية ويمثلها دريد ابن الصمة بقصيدته نصحت لعارض وأصحاب عارض- ورهط بني السوداء والقوم شهدي. ولما عصوني كنت منهم وإني- أرى غوايتهم وإنني غير مهتدي. أمرتهم أمري بمنعرج اللوى- فلم يستبينوا الصبح إلا ضحى الغد. فهل أنا إلا من غزية إن غوت- غويت وإن ترشد غزية أرشدي. إنها النفس السوية وأنه رضي أن يعرّض نفسه معهم للخطر إذ لم يقتنعوا، وهو النموذج الديمقراطي الذي يعبر فيه المرأ عن ذاته، أما جماعته وإن لم يستطع إقناعهم يبقى معهم وإن تعرض للخطر وهذه نماذج ثلاثة تمثّل الهويات العربية حصرا وتحديدا بحسب رصدي. فالنفس المرّة مجافية للواقع وهي متوحشة وهي أكثر شيوعا، والنفس الرومنسية التي تتمركز حول ذاتها وتريد العالم أن يدور في أفقها والنفس الديمقراطية والسوية عند دريد أقل النماذج شيوعا النفس المتوحشة.
وتوقف الغذامي مع ما سماه الهويات الجذرية وهي الهويات القاتلة وهي التي نمر بها اليوم في علم الثقافة والدراسات كلها تتجه إليها عبر مفهوم البوتقة الصاهرة التي تصهر الثقافات والأجناس والأعراق وفيها أكد الغذامي هذا المفهوم وفق الدارسين الأنثربولوجيين هو مفهوم وهمي وخصوصا أن أميركا التي يشار لها بالبوتقة الصاهرة لم تكن يوما قط بوتقة صاهرة، بل هي ما أسماه كناية «صحن سلطة» لأن العناصر الثقافية لا تنصهر ولا تذوب في بعضها البعض أبدا إذ الديانات الألوان الأعراق تظل هي هي.
من المجتمع إلى الجماعة
ونقد الغذامي التحول الذي يعاش هذا اليوم، فقد تحول مفهوم المجتمع إلى مفهوم الجماعة وهو تحوّل مفاهيمي خطير جدا إذ تحول الناس من مجتمع إلى جماعة، وهذا يعد صدمة كبرى أمام الأحلام الكبرى، حيث تلاشى وعد العولمة ووعد الحداثة، ووعد نهاية التاريخ، ومع كل تحوّل نعيد ما هو ضده فمن داخل العولمة خلقت الشعوب نقيضا لها وراحت تقاومها، إذ كلما تصاعد وعي ما تصاعد معه نقيضه وكلما ازداد تحضرا ازداد عودة للمستودع السابق، خصوصا مع الخوف من الجديد الذي يعززه الإعلام فينا، فثمة خوف من الانهيار الاقتصادي وثمة خوف من المرض من الانفلونزا بما يعيدنا للعقلية القديمة فنخلق لنا أمانا داخليا صنما كهفا، ثمة خوف أسطوري يعيدنا للقرية.
وأضاف الغذامي وكنا أبناء الستينيات نراهن على الطبقة الوسطى من أطباء ومدرسين ومهندسين كضابطة اجتماعية فكان منهم الشعراء والأدباء والكتاب والمسرحيون، ولكن لما بدأت هذه الطبقة تتكسر تهاوى كل شيء وضاع ما نعتمد عليه، فلا أحد في الوسط وسقطت الرمزيات.
ويوما ما كان التعليم يساوي الحل السحري وكنا نراهن عليه فوظيفة التعليم محاربة الجهل ولكن تبدّد كل ذلك حين أنتج لنا التعليم أنصاف متعلمين، وصاروا يتحكمون بالفكر البشري، فلا هم يقولون لا أعرف فيكفونا، ولا هم العكس فالنصف تعلم لا هو جهل فيبقينا أبرياء ولا هو علم فيجعلنا ننتج.
وهناك الهوية المقاومة في مقابل الهوية المشرعة الدولة أو المؤسسة أو الأحزاب قومية أو دينية في مقابلها الهوية المقاومة يحس بها المهمشون المبعدون ويقاومون بها الهويات المفروضة عليهم كردة فعل على الأرض.
وختم الغذامي محاضرته بالمقولة الكبرى التي يرددها ويعود إليها دائما من أن الثقافات دائما تحتكم وتقوم على النسق، إذ نتمثل أشكالا وصورا ودراسات وأنواعا لهويات مختلفة من عرقيات وجنوسة وعنصرية وقومية وحدود ثقافية مادية أو معنوية أو لغوية لنعود لمسألة تحكم النسق في كل ذلك.
وبعد المحاضرة كانت هناك مجموعة من المداخلات إذ أشار أستاذ النقد والأدب بجامعة البحرين منذر عياش إلى خصوم هذا الطرح من أيدلوجيين وسلطويين وأن الثقافات قائمة على ثقافة الشخص وثقافة النص متمنيا من الغذامي الخوض في خصوصيات التفاصيل اليومية التي نعيشها ممثلة لهذه الثقافات فهي مخالب تمتد إلى أجسامنا، فيما تساءل مروان العياسرة عن مسألة الهوية بين التعدد والعدائية وما نصيب الفرنكفونية من ذلك. أما مداخلة الباحث في علم الاجتماع باقر النجار فقد أشار فيها إلى أن تداخل أبعاد الصراع بين القومي والديني إنما يقوم في جوهره على مركب البحث عن القوة دائما. فيما أشارت أستاذة علم الإبداع والموهبة أنيسة فخرو إلى أن الغذامي ببحثه هذا قد وضع يده على مكمن العلل في المجتمع العربي خصوصا من خلال تصنيفه للهويات ومسألة النسق، أما أستاذة النقد الأدبي ضياء الكعبي فقد تساءلت عن مدى دور النحل الشعري في نقض أو تعزيز ظاهرة النسق الذي يبنيه الغذامي من هذه الأبيات، وما موقع الهويات الجانبية في تشكيل الهوية الجذرية مثل الهوية الحجازية أو النجدية. فيما تساءل أستاذ العلوم الإنسانية بجامعة البحرين محمد السيد عن النفس المرة وهل هي خصوصة عربية وماذا عن الثقافة اليابانية، أم أن المسألة إنسانية بحتة، وتساءل، ألا يحمل هذا التحليل تصنيفا قيميا؟.
العدد 2463 - الخميس 04 يونيو 2009م الموافق 10 جمادى الآخرة 1430هـ
عفووووووا
ووووووووووووووين حياة الشاعر