عرفت إحدى اللهجات العربية التي تتحدث بها طائفة معينة من السكان في جزر البحرين باسم لهجة البحارنة (أو اللهجة البحرانية)، واعتمادا على الدراسات اللغوية التي درست هذه اللهجة وخصائصها العامة وانتشارها الجغرافي يتبين أن هذه اللهجة محصورة في منطقة جغرافية معينة هي جزيرة البحرين وشرق الجزيرة العربية، وكذلك توجد في مناطق أخرى في الخليج، إلا أنها في هذه المناطق الأخرى لا يتحدث بها إلا أفراد ارتبطوا تاريخيا بجزيرة البحرين أو شرق الجزيرة. أما اللهجة الأخرى المتحدث بها في البحرين فقد اصطلح عليها اسم لهجة الخليج العربي لسيادتها في الخليج العربي وهي لهجة القبائل التي استوطنت البحرين خلال القرون الثلاثة أو الأربعة الأخيرة وحافظت على نمطها القبلي، وفي الواقع فإن لهجة الخليج العربي بصورة عامة منقسمة على نفسها للهجات فرعية منتشرة في الخليج العربي، ولهجة الخليج المنتشرة في البحرين حاليا هي إحدى فروعها.
تعتبر لهجة البحارنة أول لهجة عربية تكونت على جزيرة البحرين، نستنتج ذلك من خلال الدراسات السابقة لهذه اللهجة التي أوضحت انتشارها الجغرافي المحدود والمحصور، كذلك من خلال دراسة تاريخ الجماعات التي تتحدث بها والذين عرفوا باسم «البحارنة» (ومنها اشتقت تسمية اللهجة) وهي الجماعة الأقدم وجودا على هذه الجزيرة باعتبار أن هذه الجماعة تحمل العلامة الجينية (أي مرض فقر الدم المنجلي) الخاصة بالشعوب التي توارثت أرض دلمون. ونرجح أن لهجة البحارنة قد تكونت على مرحلتين، خلال المرحلة الأولى تكونت اللهجة البحرانية الأولية وهي لهجة تطورت من لهجات القبائل التي سكنت البحرين حسب آليات معينة أثرت في محاور تلك اللهجات وكونت لهجة واحدة لها خصائص عامة. أما المرحلة الثانية فتتضمن تطور لهجة البحارنة الأولية نفسها بسبب آليات معينة أثرت في محاورها أدت لظهور اللهجة البحرانية الحالية بصورتها الحالية. وهذا يعني أن لهجة البحارنة التي تكونت قديما لم تكن بالصورة التي عليها الآن، حيث أن الصورة الحالية للهجة البحرانية هي صورة متطورة عن اللهجة البحرانية الأولى التي تكونت. وهنا نفترض أن بداية تكون اللهجة البحرانية الأولى كان مع بداية استقرار القبائل العربية على جزيرة البحرين أي قرابة عام 300م وذلك باعتبار أن هذه القبائل بدأت بالاندماج مع الشعوب التي توارثت الأرض منذ حضارة دلمون. وأخذت اللهجة في التبلور على مدى السنوات اللاحقة حتى دخول الإسلام الذي شجع على انتشار اللغة العربية.
اللهجة والجين والدلالة التاريخية
قبل أن نبدأ في الحديث عن تكون اللهجة البحرانية وتطورها يجدر بنا أن نجيب على سؤال، هل تصلح اللهجة أن تكون دليلا على أصل الفرد؟ بمعنى هل جميع من يتحدث باللهجة البحرانية يتوجب أن يكونوا من أصل واحد؟
قبل الإجابة على هذا السؤال علينا أن نعلم أن هناك تشابها بين عملية تبلور لهجة معينة وعملية تكون بصمة وراثية خاصة في جماعة معينة، فلو انعزلت مجموعة صغيرة معينة من السكان في منطقة معينة دون الاختلاط بجماعات أخرى فإنها ستكون لنفسها بصمة وراثية خاصة بها تميزها عن غيرها من الجماعات، ولكن لكي يحدث ذلك يجب أن تتوفر الشروط التالية:
1 - ثراء المنطقة التي سكنتها الجماعة بالثروات الطبيعية.
2 - أن يكون عدد الجماعة صغيرا؛ فكلما كبرت المجموعة قل احتمال تكون بصمة وراثية خاصة بها.
هذه الشروط هي ذاتها الشروط التي يجب توافرها لتكون لهجة خاصة بجماعة ما، فكما سبق وأن ذكرنا، فثراء الأرض بالموارد وقلة السكان تلعب دورا هاما في تطور اللغة، ولكن، هل هذا يعني أن اللهجة تصلح لأن تكون علامة مميزة لأصل شخص ما؟
لا نستطيع أن نجزم فغالبا تصلح لكن سيكون هناك هامش للخطأ والسبب في ذلك أن اكتساب اللهجة قد يأتي أحيانا بالتعايش مع أو بالقرب من تلك الجماعة، وأنها تتبلور عند الشخص بالممارسة، وربما تستمر مع شخص ما أو ربما يغيرها شخص آخر. لذلك حتى نضمن أن آليات تكون اللهجة البحرانية التي سنتحدث عنها لاحقا ذات صدقية عالية قمنا بإثبات وجود علامة جينية مشتركة بين متحدثي هذه اللهجة (في الحلقة السابقة)، وذلك لضمان وجود أصل مشترك، فالجين لا يأتي إلا بالتوارث فلا يمكن التبرؤ من الصور الجينية المورثة أو نزعها من ملف التاريخ الجيني لأي مجموعة بشرية.
قبل أن نناقش ما آلت إليه اللهجة البحرانية من تطور وكيف وصلت للصورة الحالية يجدر بنا هنا أن نوضح آليات ومحاور التبدلات الأساسية التي تصيب اللغة أو اللهجة، والتي تؤدي لتطور اللغة وتكوين اللهجات، وكذلك تصيب اللهجات وتكون اللهجات الفرعية. هناك مجموعة من الآليات التي أدت لتكون اللهجة البحرانية وتطورها من لهجات القبائل العربية التي استوطنت البحرين. وقد عملت هذه الآليات على صهر اللهجات العربية في لهجة واحدة من خلال العمل على محاور معينة، بمعنى آخر هناك آليات ومحاور لتطور اللغة ومحصلة ذلك نتجت لهجة بحرانية أولية، وما لبثت هذه اللهجة أن انقسمت على نفسها لتكون لهجات فرعية. وسنتناول فيما يلي تلك الآليات والمحاور.
التطور في اللغة العربية يشمل ثلاثة تبدلات رئيسية، وهي: تبدلات صوتية وتبدلات المفردات وتبدلات الدلالة. وعلى الرغم من أن هذه التبدلات موحدة في جميع البلدان العربية إلا أن المحصلة النهائية لهذه التبدلات مختلفة من قطر لآخر. هنا سنعطي ملخصا لتلك المحاور دون الخوض في التفاصيل.
1 - تبدلات تركيبية
وهذه التبدلات تصيب الأصوات نتيجة تماسها واحتكاك بعضها ببعض في الكلام ومن الطرق التي يتم بها ذلك المغايرة والتماثل والتخالف والانتقال المكاني وتبدلات الحروف. ويمكن تقسيم هذه التبدلات تحت عنوانين رئيسيين: تبدلات ناتجة عن تجاور الأصوات وتبدلات ناتجة عن تقارب الأصوات في الصفة. وهي تنقسم لقسمين، تبدلات ناتجة عن تجاور الأصوات ومن ظواهر ذلك المغايرة والتماثل والإمالة، أما القسم الآخر فيضم التبدلات الناتجة عن التقارب بين الأصوات في المخرج أو الصفه.
والتبدلات الناتجة في التبدلات التركيبية لها تعليلات صوتية فهي خاصة بكلمة معينة فقط مثلا في اللهجة العامية يسمى الدلفين «دغس» بينما في اللغة العربية الفصحى يسمى «دخس» أي أن العامة قلبة الخاء (غين) لكن هذا القلب خاص بهذا التركيب لأسباب صوتية ولكن عادة ما تنطق الخاء كما هي في اللغة في الكلمات الأخرى، وهذا ما يميز هذا النوع من التبدلات عن التبدلات التاريخية التالية.
2 - تبدلات تاريخية
وهي تبدلات تصيب الأصوات نتيجة التطور الذي تخضع له خلال الزمان. وهذه التبدلات تكون مطلقة بمعنى أنها إذا أصابت صوتا ما فإنها لا تصيبه في تركيب دون تركيب آخر، بل تصيبه في كل تركيب من تراكيب اللغه، فالجيم عندما تقلب إلى ياء فإنها تقلب في جميع الكلمات وليس في كلمة دون كلمة أخرى.
إن المفردات تتبع الظروف فلذلك لا تستقر على حال. فكل منكم يكون مفرداته من أول حياته إلى آخرها بمداومته على الاستعارة ممن يحطن به. فالانسان يزيد من مفرداته ولكنه ينقص منها أيضا.
دلالة الكلمة ليست ثابتة شأنها في ذلك شأن الأصوات والمفردات، وترجع أكثر التبدلات في الدلالة إلى ثلاثة أنواع: التعميم والتخصيص والانتقال الدلالي.
1 - التعميم: وهوانتقال بالكلمة من معنى ضيق إلى معنى أوسع منه، وتحدث عندما تختفي على المتكلم الفروق الدقيقة بين النوع والجنس فيسهل عليه أن يطلق اسم الجنس الخاص على النوع الذي هو أعم منه.
2 - التخصيص: وهوانتقال بالكلمة من معنى عام واسع إلى معنى أخص منه وأضيق.
3 - الانتقال الدلالي: وهوتحول الكلمة من معنى إلى آخر يختلف عنه كل الاختلاف فلا هوأضيق منه ولا أوسع.
سبق أن أشرنا أن تكون اللهجة البحرانية مر بمرحلتين، وفي كل مرحلة من تلك المراحل كانت هناك آليات معينة ساهمت في عملية التطور، وعليه يمكن تقسيم الآليات التي أدت لتكون اللهجة البحرانية إلى قسمين، القسم الأول ويضم آليات عملت بصورة أساسية على بلورة اللهجة البحرانية بصورتها الأولية، أي تكوين الخصائص العامة المميزة للهجة البحرانية، أما القسم الآخر من الآليات فيضم تلك الآليات التي على تضخيم بعض الظواهر النادرة في اللهجة البحرانية الأولية عند جماعة دون أخرى وبذلك نتج عنها تطور هذه اللهجة وانقسامها لتكون لهجات فرعية ضمن اللهجة البحرانية.
1 - مجاورة جماعات لا تنطق بالعربية
القبائل العربية التي استوطنت البحرين جاورت شعوب أخرى غير ناطقة بالعربية من تلك الجماعات من يتحدث الفارسية وأخرى تتحدث الآرامية. لقد كانت اللغة الفارسية منتشرة في جزر البحرين وشرق الجزيرة العربية قبل مجيء القبائل العربية، وكانت اللغة الآرامية هي لغة الطقوس الدينية المستخدمة في الكنائس ومن يعمل فيها، ويبدو أنها استخدمت كلغة رسمية فقد نقش بها على المسكوكات النقدية في فترة معينة.
2 - الديانة المسيحية
هناك العديد من الإشارات التي تدل على أن القبائل التي سكنت البحرين دانت بالديانات المتواجدة فيها كاليهودية والمجوسية، وأكثر الديانات التي انتشرت بين القبائل العربية في جزر البحرين وما حولها هي الديانة المسيحية التي تغلغلت في منطقة البحرين وانتشرت فيها وغلبت على قبائل قضاعة وطي ثم ظهرت في ربيعة فغلبت على تغلب وعبد قيس وبكر بن وائل. ويبدو أن انتشار المسيحية كان قويا في أفراد عبد قيس فيذكر ابن حزم أن عبد قيس بأسرها اعتنقت هذه الديانة. وقد كانت اللغة الطقسية للديانة المسيحية هي الآرامية كما أسلفنا، نستنتج من ذلك أن القبائل العربية التي اعتنقت المسيحية ربما تعلمت اللغة الآرامية أو على أقل تقدير اندمجت مع من يتحدثها لفترة طويلة، وهذا يفسر لنا التأثيرات الآرامية في اللهجة البحرانية، فهناك خصائص أساسية في اللهجة البحرانية اعتبرت تأثيرات من اللغة الآرامية وهي غياب الأصوات الأسنانية «الثاء» و«الظاء» و«الذال» من اللهجة البحرانية حيث تلفظ الأولى «فاء» والثانية «ضاد» والثالثة «دال». وكذلك الضمائر «أنتين» و«أنتون» يعتقد أنها جاءت من الآرامية وسنناقش هذا بالتفصيل لاحقا.
وعندما قويت الدولة الساسانية سيطر الفرس على الديانة النسطورية وأسبغوا عليها السبغة الفارسية. وعمل مترجمون متخصصون في تلك الفترة على ترجمة الطقوس من الآرامية للفارسية لتصبح اللغة المتحدث بها واللغة الطقسية أيضا. واستمر هذا الحال ردحا من الزمن.
العدد 2463 - الخميس 04 يونيو 2009م الموافق 10 جمادى الآخرة 1430هـ