اللّهمّ لا اعتراض على قَدَرِك ولا رادّ لقضائك، فما أعظم مصيبة الموت! إنّ لها في القلب وقعاً وأيّ وقع، وألماً وأعظِم به من ألم، ألم فراق العظماء؛ فلقد طالت يد المنون في أقلّ من أسبوع، تباعاً، رجلين لا ككلّ الرجال، الواحد منهما بقامة قرن وحجم قارّة، هذا من أقصى جنوب القارة الإفريقيّة هو نيلسون مانديلا رمز للنضال ضدّ نظام التميز العنصريّ حتّى صار «النضال عنوان حياته» والثاني من شمال القارّة الإفريقية، أيقونة الكلمة الصادقة غدا مثالاً للنضال من أجل الغلابى في بلاده أمّ الدنيا وفي كلّ الدنيا وما أكثرهم.
اللهمّ لا اعتراض، هكذا يرحل العظماء فيتركون خلفهم إرثاً عظيماً يتداوله الدهر على مرّ السنين، نعم هم من آمنوا مع المتنبي، منذ مئات السنين، أنّ المجد ليس زِقّاً وقَيْنَةً وإنما المجد من بين معانيه عندهم «ترْكُكَ في الدّنْيا دَوِيّاً كأنّما تَداوَلَ سَمْعَ المَرْءِ أنْمُلُهُ العَشرُ». هكذا يخلدون وآيات خلدهم أفعالهم وأقوالهم ومواقفهم؛ فهذا أحمد فؤاد نجم الشاعر المصريّ العظيم شاعر «اللغة» العاميّة وعامّة الناس، سفير الفقراء في عالم الكلمة الحرّة اتّخذ من الكلمة العاميّة البسيطة والصادقة سلاحاً قاوم به على مدى حياته دون كلل أو ملل، دون أن يطرق إليه اليأس أو يتسلّل إليه الشكّ، ها هو يترجّل نحو مثواه الأخير مودّعاً زمناً ضاق به، على رغم ما يزخر به فؤاد أحمد فؤاد من حب للآخرين وتسامح حتى مع جلاديه في سنوات الجمر فها هو، رغم كونه كابد أهوال المعتقل في زمن عبدالناصر، يرثيه ولو بعد حين حيث يقول: «عمل حاجات معجزة وحاجات كتير خابت، وإن كان جَرَحْ قلبنا كل الجراح طابت» وفي هذه الكلمات البسطة دروس في التسامح يحتاج إليها الكثير منّا على أيامنا هذه.
وذاك نيلسون مانديلا صاحب جائزة نوبل للسلام يروّض السود الثائرين المنتصرين في جنوب إفريقيا ويمنعهم من الانتقام من البيض ويحوّل البلاد إلى ما يشبه واحة سلام وتسامح يتعايش فيها السود والبيض معاً على قدر المساواة وعلى أسس المواطنة؛ ذلك لأنه لا يريد أن يضيّق الحياة على أحد في بلاد يمكن أن تلمّ شمل الجميع أليس هو القائل: «إننا نقتل أنفسنا عندما نضيّق خياراتنا في الحياة»؟، ثمّ يغادر سدّة الحكم من الباب الواسع العريض بعد فترة رئاسية واحدة ووحيدة ليفسح المجال لغيره في مناخ من الديمقراطية عزّ نظيرها في بلد إفريقيّ.
وهذا أحمد فؤاد نجم شاعر الميادين والملايين، شاعر الجامعات شارع الشوارع والمقاهي لم يهادن ولم يساوم ولم يبع ضميره مقابل مال ولا منصب زائل، هكذا هو أحمد فؤاد نجم صوت عميق أجشّ مواقفه من حديد أقضّت مضاجع سلاطين مصر من عبدالناصر إلى محمد مرسي، فأردوه في غياهب السجون لسنوات ظنّاً منهم أن شوكته ستنكسر وشكيمته ستفتر وتندثر، لكنّه يأبى إلاّ أن يستقرّ فوق عرش الشعر المصريّ، نعم هو الشاعر وأنْعِم به من شاعر ينتصر لفنّه الصادق وللبسطاء من العمال والفلاحين والطلبة وملايين الغلابى...
وذاك المعمّر في السجن 27 عاماً، رفض أن يُعطى الحرية كما يريدها سالبوها على جرعات، لأنه آمن أنّ الحرية لا يمكن أن تُعطى على جرعات، فالمرء إمّا أن يكون حرّاً أو لا يكون، لذلك طال سجنه فغدا رمزاً للنضال وتعثرت مسيرته فازداد بصبره وتنويعه أشكال النضال عظمة فهو يرى أنّ: «العظمة في هذه الحياة ليست في التعثّر ولكن في القيام بعد كلّ مرّة نتعثّر فيها.» وكم تعثّر مانديلا! وكم وقف من جديد في تحدٍّ صارخ للمصاعب والهزات! ذلك أنّ الإنسان الحرّ في نظره كلّما صعد جبلاً عظيماً وجد وراءه جبالاً أخرى يصعدها.
وداعاً نيلسون مانديلا صنعتَ لإفريقيا تاريخاً في حياتك، وها أنّت تتحوّل إلى مدرسة يغتذى منها العالم الحر بعد مماتك وأضمّ صوتي لمن دعا إلى إدراج شخصيّتك في مناهج التعليم لا في دروس التاريخ فقط وإنّما في دروس المواطنة ونصوص العربيّة كواحد من أبرز شخصيّات القرن العشرين وأشدها تأثيراً في تاريخ جنوب إفريقيا والفكر الإنساني المتسامح.
وداعاً أحمد فؤاد نجم وداعاً يا من رثى العظماء، والله إنك لأولى بقصيدتك في جيفارا، والله إنّك لأولى بقولك فيه «مات المناضل المِثال... يا ميت خسارة عَ الرجال» حقّاً «عيني عليك ساعة القضا... من غير رفاقه تودّعه... يطلع أنينك للفضا... يزعق ولا مين يسمعه... يمكن صرخ من الألم... من لسعة النار فِ الحشا... يمكن ضحك... أو ابتسم... أو ارتعش... «عذراً على التصرف في نصك فما أجمل ما قلته في غيرك وأنت به أولى.
وداعاً أحمد «فؤاد مانديلا» وداعاً للزمن الجميل، شعر ونضال وحنين، وداعاً وفي القلب دمعة وأنين.
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 4112 - الإثنين 09 ديسمبر 2013م الموافق 06 صفر 1435هـ
جميل جدا
ربط لطيف بيم منديلا والشاعر العربي أحمد فؤاد نجم
وداعا
وداعاً أحمد فؤاد نجم وداعاً يا من رثى العظماء، والله إنك لأولى بقصيدتك في جيفارا، والله إنّك لأولى بقولك فيه «مات المناضل المِثال... يا ميت خسارة عَ الرجال» حقّاً «عيني عليك ساعة القضا... من غير رفاقه تودّعه... يطلع أنينك للفضا
سؤال
ترى متى يجود علينا الزمان بمثلهما ربما نختاج الى اجيال
مزج معبر وجميل
جميل حقا هذا الربط بين مانديلا وأحمد فؤاد نجم
رحمهما الله
الله يرحمهم
رجلان وأكرم بهما من مناضلين