بعض البشر يرحلون عن العالم بأجسادهم؛ لكنهم يظلون أحياء بما خلَّفوا من قيم ومُثُل وتسامٍ على الآلام والأحقاد والكراهية، تلك التي تكاد إحدى سِمات التعرُّف على سكَّان هذا الكوكب.
يعيش بعض البشر بأجسادهم، ولكنهم في واقع الأمر أموات، بما يُشِيعونه في دنيا الناس من فتن وقلاقل، وأصل كل ذلك: الكراهية أيضاً!
برحيل المناضل الكوني، نيلسون مانديلا، لا تُطْوى صفحات من تاريخ ناصع ومضيء ومُشرِّف عُرِف به الرجل، مدافعاً شَرِساً عن حقوق شعبه الذي عانى لعقود من أبشع نظام عنصري قميء وكريه عرفه تاريخ الإنسانية، منذ ما قبل تحضّر البشر! لا تطوى الصفحات لأنها تحوي قيماً كبرى، وتراثاً ضخماً من الإصرار على تحقيق الغايات التي فيها علوُّ شأن وسمو بالنفس، وانحياز للإنسان في بعده الخلّاق.
الذهاب إلى سيرة الرجل له قيمته الكبرى من دون شك؛ لكن الوقوف على ما بعد السيرة تحوي قيمة أكبر. سؤال برسْم التخيُّل والافتراض، ربما يكشف عمّا أعنيه بالوقوف على ما بعد السيرة: ماذا لو خرج مانديلا بعد 27 عاماً من احتجاز حريته مع عشرات الآلاف من شعبه، وذهب إلى الانتقام حتى آخر الشوط، بعد عقود من الإبادة والتمييز العنصري والقتل والحرمان والفقر الذي ألقى بظلاله على السكَّان الأصليين، فيما العالم يرى الغزاة والغرباء والمحتلين يستأثرون بكل تفاصيل البلد؟ ماذا لو انعكست الآية ومارس السكَّان الأصليون العنصرية والتمييز نفسه ضد البِيض؟
لفترة من الزمن ربما، سيجد كثير في العالم أن الانتقام أمر طبيعي بعد كل ما مورس وحدث. بعد كل الفظاعات والأهوال والمرارات التي ذاقها مانديلا وشعبه. ربما يتحرك العالم ولن يطول تحركه طالما أن البِيض هم الذين يتعرضون هذه المرة للتمييز. في الفطرة لا حرج ولا غرابة أن يحدث ذلك؛ لكن بُعْداً أخلاقياً هو المحرّك الرئيس لكل ذلك النضال الطويل. الطويل بطول ليل مانديلا وشعبه.
الانتقام لم يرسخ في ذاكرة البشر باعتباره قيمة أخلاقية، وإن بدا حقاً؛ بل هو كذلك في كثير من الحالات، لكن معه يتم تجاوز الحق، وتنشأ عنه سدود وموانع تحول دون تلمّس أفق للناس في حياة مستقرّة وطبيعية، ووسط كل ذلك تحدث التجاوزات والخروقات.
ما يرسخ في كل حركة تتوخَّى الإنسان، وتخرج وتناضل وتشقى من أجله، هو الجانب القيمي والأخلاقي، لا الذي به تُصلح خللاً وأخطاء بخلل وأخطاء أكبر وأفظع. ذلك هو الفارق الذي يرسخ في الذاكرة البشرية. كل الثورات وحركات التحرر التي ذهبت إلى الانتقام كأولوية تم نسيانها وتجاهلها، وأصبحت ركاماً ضمن ركامات لا تُعدُّ ولا تحصى، يقف المرء أمامها لتوخِّي العِبْرة وتجاوزها؛ لأنها لا تُعلي من روحه ونفْسه حجم ذرَّة؛ بل على العكس تهوي به في أكثر من وادٍ سحيق!
ومع تجنّب مانديلا وشعبه الانتقام، بتكريسه لأهم مصالحة وطنية عرفها التاريخ الحديث، وحتى بعض التاريخ القديم، وهي الأهم والأصعب من إنهاء تاريخ الفصل العنصري، إلا أنه مارس حقَّه الفطري هو وشعبه بعدم نسيان كل ما حدث: «التسامح الحق لا يستلزم نسيان الماضي بالكامل»، لأن مثل ذلك النسيان مع مرور الوقت يقدِّم الأمة التي نسيت باعتبارها خارج الحسِّ، وخارج المشاعر، وخارج القيمة، وتستحق ما حدث لها!
ولم ينسَ مانديلا أيضاً أولئك الذين وضعوه وشعبه في دائرة وقائمة الإرهاب فترة نضاله المستمر ضد نظام الفصل العنصري، وحتى حين أُوْدع السجن؛ لذلك ظل قبل وبعد خروجه وعبْر كثير من خطبه يلمّح ويصرّح تعرية لتلك المواقف الـمتواطئة ضد حق الإنسان في العيش بحرية وكرامة ومسئولية، بعيداً من الوصاية والهيمنة.
العالم المتعجرف والقوى المتسلّطة ترى المسحوق والضعيف، وأحياناً صاحب الحق بصوت مرتفع وعالٍ، إرهابياً. كان نيلسون مانديلا إرهابياً في نظر قوى الاستكبار والأنظمة الرجعية. هي نفسها القوى اليوم التي على رغم أنفها اعترفت به زعيماً سياسياً وحقوقياً من طراز رفيع، فقط لأنه لم يُعِر تلك القوى والمعسكرات ذرَّة اهتمام للاعتراف بعدالة قضيته وقضية شعبه. كان متيقّناً أن صاحب الحق الذي ينتظر اعترافاً أممياً بحقه كي يدفعه ذلك إلى الاستمرار، واهم وفي الدرجة المتقدِّمة من خطورة الوهم.
وفي بحثه عن الحرية لم يكن تاجراً بالجملة والمفرق. كان في طريق له كُلَفُه واستحقاقاته وعذاباته ولياليه وسهره الطويل. لا حرية تأتي في ركون واستسلام وخضوع. الحرية أسلوب وطريقة حياة. بل هي الحياة، من دونها لا قيمة لشبه بشر يتنفّس من منخريه، عالة واستهلاكاً للهواء الذي يستحقه من يعرف قيمة أن يحيا الإنسان حراً. هو نفسه بالنص والفعل على الأرض: «الحرية لا يمكن أن تُعطى على جرعات، فالمرء إمَّا أن يكون حرَّاً أو لا يكون حرَّاً».
95 عاماً قضى الشطر الأكبر منها باحثاً عن الحياة الحقّة له ولشعبه. لم يبحث عن حياة له ولشعبه تشاطره فيها حتى أتفه وأضعف البهائم والمخلوقات. كان يبحث عن حياة شجاعة لنفس شجاعة، ولوجود شجاع يُحدث فارقاً في مسيرة الجنس البشري؛ لا حياة العبور الذي لا تشعر به حتى نملة الأرض. حياة الجبناء لا يمكن أن تُصنَّف على أنها حياة. هي موت يومي؛ بل لحْظي، بالركون والخضوع والاستسلام والتسليم لذوي السطوة والقوة. وله في ذلك رؤية ورؤيا أيضاً: «الجبناء يموتون مرات عديدة قبل موتهم، والشجاع لا يذوق الموت إلا مرَّة واحدة».
وبالوقوف على ما تضمّنه خطاب قبوله جائزة نوبل للسلام في العام 1993 مع الرئيس دي كليرك، قال مانديلا: «لطالما ظللْت طوال سنوات أناضل، مثل منظمة العفو الدولية، من أجل تحقيق العدالة وحقوق الإنسان. وها أنا قد تقاعدت من العمل العام الآن. ولكن طالما ظل هنالك جور وانعدام مساواة في عالمنا، فلا يمكن لأي منا أن يركن إلى الراحة فعلاً؛ إذ لايزال يتعيَّن علينا أن نستجمع المزيد من قوانا».
ستظل قيَمه وأفكاره ونضاله والمبادئ التي ثبت عليها حاضرة تمثله وإن تقاعد عن الحياة.
بكلمة:لا يوجد مناضل في قرنين عرّى الكراهية والعنصرية كما فعل مانديلا. سيخشاه العنصريون حتى وهو في قبره!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4111 - الأحد 08 ديسمبر 2013م الموافق 05 صفر 1435هـ
كالامام الحسين
لاقى جده ...ولازال الظلام والفاسدين يخشونه
مانديلا
عندنا الكثير من يناضل على نهج مانديلا يقبعون في السجون