سوزان كولين ماركس - النائب الأول لرئيس منظمة البحث عن أرضية مشتركة، وهي صانعة سلام عالمية تتمتع بالاحترام ووسيطة ومؤلفة من جنوب إفريقيا.
في الوقت الذي نرثي فيه جميعاً الراحل نيلسون مانديلا، من المفيد أن نتوقّف لنستذكر حياته ونحتفل بعظمته كقائد وكرجل، فوفاته تشكّل خسارة لهذا العالم الذي نعيش فيه، ولكن روحه ستبقى حيّة في نسيج هذا العالم وفي كل واحد منا.
سُجن مانديلا عندما كان في الرابعة والأربعين من عمره في زنزانة مساحتها 6x9 أقدام على جزيرة روبن من قبل نظام الفصل العنصري، الأبارثايد. وعندما أطلق سراحهُ أخيراً في 2 فبراير/ شباط 1990، كان قد بلغ من العمر 71 سنة. انتظرْتُ يومها مع 80000 شخص تحت الشمس الحارقة طوال اليوم في الميدان الرئيسي في مدينة كيب تاون. وفجأة ظهر منديلا، طويل القامة، قوي البنية، مبتسماً وضاحكاً. رجل من قبيلة زوسا عيونه ترقص. صرخْنا وغنينا ورقصْنا تعبيراً عن سعادتنا. سَحَرنا برؤيته لمستقبل يعيش فيه جميع الجنوب إفريقيين، سوداً وبيضاً متساوين في وطنهم. استقر دفئه وروحه فينا متغلغلين في قلوبنا وعظامنا. لقد عادت الجمرة المتقدة إلى الوطن على صورته الحكيمة، وسيأخذنا جميعاً الآن معه إلى جنوب إفريقيا الجديدة.
وحيث أن أجزاء كبيرة من شمال إفريقيا والشرق الأوسط لاتزال تخوض آلام النمو المصاحبة للصحوة العربية، بما في ذلك العنف الطائفي والعرقي والتحديات في الحوكمة، فلربما تستطيع روح مانديلا وأسلوب قيادته الغامران العظيمان إنارة السبيل قدماً للأمم الأخرى ولنا جميعاً.
لقد جسّد مانديلا العناصر الجوهرية للقيادة العظيمة، حتى عندما بقي إنساناً كاملاً له عيوبه وظلاله، وأثبت لنا حقيقة عميقة بأننا عظماء ليس رغم فشلنا وإنما مع فشلنا. لا نستطيع التظاهر بأننا أناس غير ما نحن عليه، وما نراه اليوم في العالم من القيادة المسيطرة الجامدة هو درع حماية ضد الخوف من الفشل الشخصي والضعف. علّمتنا أصالته، فقد كان هو نفسه دائماً. ورغم مزاجه الساخن، كان رحوماً حنوناً تجاه الذين سجنوه، حتى عندما كان ندب عدم قدرته على الحفاظ على علاقات جيدة مع بعض أفراد أسرته.
كان قائداً لجميع سكان جنوب إفريقيا، ولم يحِدْ أبداً عن رؤيته لأمة مكونة من قوس قزح، وكان شجاعاً في حل المشاكل، عمليّاً يرتكز أسلوبه على قيم جوهرية تُرجمت إلى إطار أخلاقي شخصي ومهني عميق. جاء إلهامه من هدف أكبر منه، وألهم وجوده وصوته وانضباطه الآخرين ليكونوا أفضل مما يمكن أن يتصوروا في يوم من الأيام.
هناك أهمية لما كان عليه كقائد في وقت الثورات العالمية هذا. ففي الوقت الذي يتم فيه اجتثاث الثوابت القديمة، يكمن التحدي في كيفية إيجاد عالم جديد لمصلحتنا جميعاً، وليس فقط لجماعتي «أنا» أو لأي فصيل معيّن أو جماعة محدّدة. جعلنا نرى ليس فقط ما يتوجب علينا أن نفعله وكيف نفعله، بل أيضاً ما يجب أن نكون عليه كقادة وكمواطنين.
في ليبيا، يتوق الناس لقائد قادر على توحيد الليبيين من خلال إنسانيتهم المشتركة. أخبرني قائد محلي هنا في سرت بحزن أن مانديلا كان المكوّن السريّ لإفريقيا، وتمنّى أن يكون عندهم قائد مثله.
وفي مصر المجاورة، يتوق الناس أيضاً لقائد قادر على إنقاذ البلد من العنف والتقسيم المستمرين. والسوريون يتمنون إيجاد حل سلمي للانشقاقات التي يعيشونها اليوم.
قد نستذكر، ونحن نفكر بحياة مانديلا وإرثه، القصيدة المفضّلة لديه وعنوانها «إنفكتس» (Invictus)، بقلم الشاعر البريطاني من العصر الفكتوري ويليام إرنست هنلي، وقد ساعدته الأبيات التي قالها على البقاء صامداً لمدة 27 سنة في سجنه. أنا سيد قدري، أنا قائد روحي.
فهم مانديلا أن الحياة ستلقي الكثير علينا، وأن الأمر يعود إلينا في كيفية التجاوب معها. عرف قوة المغفرة، وتناول الشاي مع بيتسي فيرورد، أرملة هنريك فيرورد، مهندس نظام الفصل العنصري. تعلّم أن الحب هو أقوى سلطة في الكون، ودعا سجّانيه إلى حفل تنصيبه كأول رئيس ديمقراطي في جنوب إفريقيا. علّمنا كيف نعيش مع أنفسنا ومع بعضنا بعضاً، معانقين إنسانيتنا المشتركة.
أشعر بالامتنان لأنني كنت واحدة من الآلاف الذين وقفوا في ظلاله في ذلك اليوم من العام 1990 عندما عاد إلينا، وأظهر لنا كيف ندخل إلى ذلك المستقبل الديمقراطي الجديد، الذي نخلقه معاً.
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 4110 - السبت 07 ديسمبر 2013م الموافق 04 صفر 1435هـ