البعض يَحار أين يقضي عطلته، هل في جزر الكناري أم في مايكرونزيا أم في توكلو أم في جزر غالاباغوس بأرخبيل السيشيل حتى. أمام هذا «البعض» هناك «كثير» من الناس يحلم في أن يذهب للمرحاض! نعم... لا يضحك ولا يستغرب أحدٌ من هذا القول. فهناك ملياران ونصف المليار من البشر يحلمون بالذهاب إلى مرحاض يتوفر فيه باب وأدوات تنظيف! وبالأرقام التوضيحية، فإن هناك 2500000000 إنسان يحلمون بالذهاب إلى مرحاض مهيأ! لكم أن تتخيَّلوا أن 35.7 في المئة من مجموع سكان العالم، أو لنقل كل عشرين شخصاً بينهم سبعة أشخاص يحلمون بذلك! هذا الأمر المروِّع والمخيف، دفع بالأمانة العامة في الأمم المتحدة إلى أن تخصِّص يوماً عالمياً للمرحاض حددته في التاسع من نوفمبر/ تشرين الثاني من كل عام، بغية لفت أنظار العالم إلى ذلك حسب ما جاء في تقرير صحيفة «الحياة» اللندنية في الرابع من ديسمبر الجاري.
ولكي نفهم تلك المأساة بشكل علمي ودقيق، فإنّنا نذكر هنا أنه «يموت طفلٌ واحدٌ قبل بلوغه سن الخامسة كل دقيقة، أي أكثر من 800 ألف سنوياً بسبب الإصابة بالإسهال». وهناك «أكثر من مليار شخص يقضون حاجتهم في العراء». هذا ما قاله الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، في حين أن العالم يسمع ثم يهز كتفه! لا شيء محزن مطلقاً!
بين شقوق تلك الأرقام، تتبدَّى لنا كيف يأكل البشر من لحوم بعضهم بعضاً. فإذا ما علمنا (وحسب التقرير) أن «تدني خدمات المياه والمرافق الصحية يُكلِّف البلدان النامية نحو 260 مليار دولار سنوياً»، فهذا يعني أن عجلة التخلف لن تنتهي، وطلبات الاستجداء لن تنضب، والطلب على الدواء باهظ الثمن سيستمر. هذا تفسير أوَّلي لا يحتاج إلى الشعور بالمؤامرة مطلقاً.
وإذا ما علمنا أن «أي دولار يُستثمر في هذا المجال يمكن أن يعود بخمسة أضعاف قيمته من خلال إبقاء الناس أصحاء ومنتجين»، و»يمكن أن يضيف ما بين 3 و34 دولاراً للاقتصاد»، سيعني أن ما ذكرناه صحيح غير معتل، خصوصاً أن المنظمة الألمانية للمراحيض أشارت (وحسب التقرير أيضاً) إلى أن «88 في المئة من الوفيات الناتجة عن الإسهال تعود في المقام الأول إلى قلة تصريف المجاري».
كم هو عالَمٌ مليء بالظلم والظلمات! لم يعد الأمر متعلقاً بانتهاكات حقوق الإنسان عبر سطوة السياسة وأنظمتها، بل امتدَّ الأمر إلى حيث ظلم البشر لأقرانهم بشكل مباشر أو غير مباشر. فالبعض يعتقد أن يديه نظيفتان لأنه يسكن في آسيا ولا دخل له فيما يجري بإفريقيا، فضلاً عن كونه لا يملك حكماً كي يتحمَّل الوزر، وهذا خطأ فادح. فالجميع مسئولٌ بِنِسَب متباينة، لكنه غير معفي من تحمل المسئولية أياً يكن حجمها.
وقد صدَقَ الكاتب البصري ابن المقفع عندما قال: «إذا نابَت أخاكَ إحدى النوائب من زوال نعمة أو نزول بليَّة، فاعلم أنكَ قد ابتُليتَ معه: إما بالمواساة فتشاركه في البلِيَّة، وإما بالخذلان فتحتمل العار». وقد اختصر ذلك القول حقيقة الشعور والموقف تجاه ما يجري. فحدود المسئولية لا تقف ولا تتوقف عند تحقق القوة والنفوذ، بل باكتمال الآدمية.
عندما تنظر إلى مثل هذه الأرقام والحوادث، تقتنع بأن العالم أشبه بغابة كبيرة تتماثل في وحشيتها مع غابات الحيوانات. فغابة البشر مليئة بالأحداث الدَّالة على وحشيتهم، طبقاً لمراتب الفعل الإرادي، الذي يجترح لنفسه الحيل والطرق لفعل الجرم! فإن كان حاكماً فعَلَ ذلك من خلال قوته وبطشه ونفوذه. وإن كان محكوماً فعلَ ذلك من خلال معادلة التباين في القوة بين البشر: قوي/ ضعيف. وبالتالي، عبرة الأمر هو في خاتمته.
قبل أيام، أصدر كل من ميرون ايستفانوس، وهي ناشطة في مجال حقوق الإنسان بالسويد، وميرجام فان ريزن وكوني ريجكن من إحدى الجامعات السويسرية، تقريراً مفزعاً عن نوع آخر من أنواع القسوة البشرية. فقد أشاروا في تقريرهم إلى أن «ثلاثين ألف إرتيري – ممن كانوا يطمحون في الهجرة لتحسين أوضاعهم المعيشية والمستقبلية - تم اختطافهم وتعذيبهم في شبه جزيرة سيناء المصرية على مدار السنوات الأربع الأخيرة» وتم استحصال «600 مليون دولار أميركي على الأقل كفدى من أسر الضحايا».
هذا المشهد وما قبله كئيب جداً. وهو في الحقيقة مشهد مُركَّب ومُعقد، تداخلت فيه الأوضاع السياسية السيئة في العالم الثالث، وكذلك النظرة إلى الأشياء. عندما نقرأ في إرهاصات النهضة الأوروبية خلال القرون الماضية سنرى ما كان يُعرف بـ «مركزية الفضائل» حينما قرّروا أن «مفتاح النجاح السياسي يمثُل في تعزيز الفضائل» في المجتمع والحكم معاً، كما يقول كوينتِنْ سكنر، وذلك في السلوك الإنساني وعدم الاكتفاء بـ «إصلاح المؤسسات فقط».
يذكر سكنر نقلاً عن ستاركي ما دوَّنه في كتابه «حوار» من أهمية «العيش معاً في نظام سياسي صالح، يكون فيه كل واحد مستعداً لمساعدة الآخر والتعاون في الفضيلة والإخلاص». ثم توالت الدراسات التي جاء بها إليوت وبوديه ويمبفيلنغ وإنسانيو الشمال لتؤكد على تلك الفضائل التي يجب أن يتحلى بها الأمراء والناس على حد سواء.
لا يعتقد أحدٌ أن مثل تلك العناوين الأخلاقية هي عناوين يأخذها البعض للاستهلاك والخداع، بل هي من صميم الروح الإنسانية وقواعد العيش السليم، والتي استنارت بها حتى الشعوب الأوروبية، التي عاشت وحكمت بعلمانية متشددة بعد عصر الأنوار. إن معركة البشر اليوم هي في اللامبالاة وليس في شيء آخر.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4109 - الجمعة 06 ديسمبر 2013م الموافق 03 صفر 1435هـ
متابع
يقال : أنفقت دول العالم في عام 2012 حوالي 1735 مليار دولار على شراء الصواريخ وصفقات الاسلحة ؟ ... بينما كان يحتاج سكان العالم الى حوالي 195 مليار دولار فقط للقضاء على الفقر المدقع تماماً !!
سلمت كاتبنا
حقا مقال يستحق القراءة
كاتب فذ
بصراحة مقال رائع تقبل تحياتي
اكتب لنا عن الفقر
جاء رجل للامام فقال اشكو اليك عدوا لا يحتر الصغير لصغره ولايوقر الكبير لكبره فاستوى جالسا فقال من هو اوماهو؟ فقال الفقر ....وقال احدهم للامام ان المؤمنين كثير عندنا فقال ايعطف بعضهم على بعض ايساعد الغني الفقير ايتواسون؟ قال لا فقال ليس هؤلاء مؤمنون
امتلأ ظلما وجورا
مقالك استاذ محمد يجعل المرء يبكي وهو يرى هذا العالم وقد امتلأ ظلما وجورا