تحركات سياسية سريعة شهدتها الأيام الأخيرة، في المنطقة وفي العالم. فمختلف الأطراف الدولية، تسعى لترتيب أوضاعها، على قاعدة الاعتراف بانتهاء حقبة الأحادية القطبية، والعودة مجدداً للتعددية في صناعة القرار الأممي. وذلك لم يعد موضع جدل حتى بين عتاولة اليمين الأميركي، فهذا صامويل هانتنغتون يتحدث عن تعددية قطبية بزعامة أميركية. ويشاطره مستشار الرئيس الأميركي كارتر، بريجنسكي، الذي يقول ما هو أكثر من ذلك، فيشير إلى انتهاء مرحلة السيادة الأميركية على قرارات مجلس الأمن الدولي.
والواضح أن قاعدة الارتكاز في التركيبة الجديدة هي استعادة روح التنافس بين أميركا وروسيا، بآفاق جديدة على منطقة الشرق الأوسط. فروسيا تعمل على استعادة حدائقها الخلفية، لعمقها الاستراتيجي. وأحداث أوكرانيا المستعرة، في شكل تظاهرات كبرى عمّت العاصمة كييف، هي صراع بالوكالة، بين قطبين متنافسين، قطب يعمل على الالتحاق مجدداً بروسيا الاتحادية، وقطب آخر يعمل على تحقيق قطع نهائي مع الامبراطورية الروسية، واعتماد الشراكة الكاملة مع الاتحاد الأوروبي.
التنافس الغربي- الروسي على أوكرانيا، يقابله تنافس آخر، على المنطقة العازلة بين روسيا، ومياه الخليج الدافئة، يترجمه بوضوح، توقيع اتفاق جنيف، المتعلق ببرنامج إيران النووي. ورغم أن الاتفاق، كما تكشف نصوصه، هو اختبارٌ لحسن نوايا إيران، تجاه تلبية المطالب الدولية بالامتناع عن تصنيع السلاح النووي، لكنه مؤشر على رغبة أميركية بالدرجة الأولى، والغرب بدرجاتٍ أخرى أقل، على إنهاء حالة التوتر، بشكل نهائي في العلاقة مع إيران، والتفرغ لمعالجة ملفات أخرى، أكثر أهمية. وذلك ما أطلقنا عليه في قراءة سابقة، بسيادة حالة من الاسترخاء في المنطقة.
في هذا الاتجاه، تطفو على السطح جملةٌ من الحقائق، لعل أهمها، زيارة رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي لأميركا، ولقاؤه بالرئيس باراك أوباما، لمعالجة الفتور في العلاقة بين الحكومتين الذي ساد في السنتين السابقتين. ويتزامن هذا التطور مع تسريبات، حول اتصالات سرية تجريها الإدارة الأميركية مع قيادة حزب الله اللبناني، وتقارب تركيا ودول خليجية مع إيران، عبرت عنها زيارة مسئولين من هذه البلدان لطهران، وزيارات متكررة لمسئولين أتراك لحكومة بغداد، وتحديد موعد لانعقاد مؤتمر «جنيف2»، لمعالجة الأزمة السورية، من خلال المفاوضات السياسية، وليس بالحل العسكري.
اللافت للنظر، هو الوعي الأميركي، بأن زمن احتكار معالجة الأزمات الدولية، قد ولّى إلى غير رجعة، وأن مرحلة جديدة قوامها الشراكة بين القوى العظمى في حل الأزمات المستعصية قد أزفت.
إن من يتذكر الموقف الأميركي، بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، وكيف عملت إدارة الرئيس نيكسون، بتحريض من هنري كيسنجر مستشار الرئيس لشئون الأمن القومي، على احتكار تسوية ما عرف بأزمة الشرق الأوسط، وكيف استبعد الاتحاد السوفياتي، حينئذٍ، من المشاركة الفعلية في العملية السياسية. وكان انعقاد مؤتمر جنيف الدولي لحل أزمة الشرق الأوسط، مهزلة في شكله وفي دوره. فلم يتعد هذا الدور، مشاركة السوفيات في مهرجان احتفالي، كان هو البداية والنهاية في دور غير الأميركيين، بتسوية الأزمة.
الآن تتغير الأمور رأساً على عقب، فيكون للروس الدور الأول في التعامل مع الأزمة السورية، ويصبح الدور الأميركي مكملاً للدور الروسي. في مؤتمر جنيف لحل أزمة الملف النووي الإيراني، يشارك الروس بفعالية، ويكون لهم دور كبير، في تقرير مآلات تسوية هذا الملف. وذلك أمر طبيعي جداً ومعقول، فإيران تهم روسيا، وأوضاعها تؤثر في استقرارها، أكثر من تأثيرها على الأمن الأميركي. وبديهي القول، بأن الروس لا يرغبون في وجود دولة نووية، قريباً من حدودهم الجنوبية .
وما دامت أميركا وروسيا متفقتين على أهمية منع إيران من حيازة السلاح النووي، فإن ذلك له تأثير كبير، في تحول التعامل مع الأزمة من الحالة الصراعية، إلى حالة التسوية. يضاف إلى عوامل أخرى، أشرنا لها في حديث سابق، هي حرص أميركا على وجود منطقة عازلة بين الدب القطبي والمياه الدافئة، هذا مع وعي أن هذه المنطقة هي طريق العبور البري الرئيسي الآمن والوحيد لشرق آسيا.
وبالنسبة للأزمة السورية، فإن الأميركيين تخلوا للروس عن القيادة، بعد أن اكتشفوا تعقيدات الأزمة وتشابكها، وصعوبة الحل العسكري لحسم الصراع. وقد اتضحت لهم مخاطر التمسك بالحل الصراعي، بعد توسع دور «جبهة النصرة» و»داعش»، التنظيمين التابعين للقاعدة، وفقدان حلفائهم لكثيرٍ من الأراضي التي سيطروا عليها في السابق، لصالح القوى الجهادية المتطرفة.
ولا جدال في أن تنازلات القوى العظمى لبعضها، هي ليست من باب إثبات حسن النية، بل هي تنازلات محكومة بالمصالح وتوازنات القوة. هناك حديثٌ عن صفقة عقدتها إدارة أوباما مع الرئيس بوتين، تشير إلى استعداد روسيا فتح بوابات الاستثمار بصناعة الغاز للأميركان. وربما تقف هذه المصالح، وراء التصريحات الرخوة، المتكررة، لأقطاب الإدارة الأميركية، ومن ضمنهم وزير الخارجية، جون كيري، والتي تؤكد أن الحل السياسي، هو الوحيد والممكن للأزمة السورية.
والنتيجة أن نظاماً دولياً جديداً يتشكل. وأن ربيع القوة الأميركي، لم يعد ربيعاً، وأن قوى فتية أخرى، تستعد لقيادة العالم. ولهذا السبب، تتراجع سطوة القوة الأميركية وتتغير موازين القوى. ولهذا السبب أيضاً، عقد مؤتمر جنيف، وتم التوصل إلى اتفاقية، اختبار نوايا إيران في الستة أشهر القادمة تجاه ملفها النووي، وسوف يعقد مؤتمر جنيف2 لمعالجة الأزمة السورية في نهاية يناير/ كانون الثاني، أو على الأكثر في منتصف فبراير/ شباط من العام المقبل.
لن يكون بإمكان أحد من أطراف المعارضة الامتناع عن المشاركة في المؤتمر القادم، بعد تهديد وزير الخارجية الأميركي، عن نية الإدارة الأميركية إيجاد بديل عن هذه المعارضة، في حال امتناعها عن المشاركة في مؤتمر «جنيف 2»، فإجماع القوى الدولية على الحل السلمي سوف يجفف منابع الدعم المالي للمعارضة المسلحة، ويسد بوابات عبورها للأراضي السورية، من كل الدول المجاورة.
«جنيف إيران» سيتبعه «جنيف 2»، وسيستمر الحال في معالجة الأزمات الكبرى الأخرى، طالما استمرت الشراكة بين القوى العظمى، ولتصبح مؤتمرات جنيف الوجه الآخر للتغيرات في موازين القوى الدولية.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4108 - الخميس 05 ديسمبر 2013م الموافق 01 صفر 1435هـ