ابتليت كثير من بلادنا العربية بالحكم العسكري، وارتبط هذا النوع من الحكم بالغباء والاستبداد في العقل الجمعي العربي منذ بداية حكم العسكر وحتى الآن. وجاء حكم العسكر الأخير في مصر ليرسّخ ذلك المفهوم القديم والمتجدّد، فقد ارتبط حكمهم بتصرفات يصعب تصديقها لولا أننا نراها أمام أعيننا كل يوم.
العسكر حكموا بلاد المغرب العربي كلها عدى المغرب، كما حكموا مصر وسورية والسودان واليمن وموريتانيا والصومال، واستمر بعضهم في الحكم حوالي أربعين عاماً ولم يخرجهم من الحكم إلا الموت أو القتل أو الخلع، فقد كذبوا على شعوبهم واستعبدوها وفضلوا قتل الآلاف من شعوبهم على ترك مناصبهم أو حتى إصلاح أساليب حكمهم وتقديم بعض التنازلات لتلك الشعوب التي ابتليت بهم وصبرت عليهم كثيراً ولكن دون جدوى.
بعض الدول المحكومة من العسكر انشطرت إلى نصفين وربما تصبح ثلاثة، وبعضها عانى من انقسامات بين مكونات الشعب بسبب فساد الحكم؛ فظهرت بعض الحركات المتطرفة، وتقاتلت بعض فئات الشعب مع بعضها الآخر، وأدى ذلك وغيره من أنواع الفساد الأخرى إلى ضعف البنية التحتية في كل تلك الدول، وكذلك كثرة الفقر والبطالة والجهل والمرض رغم ثراء مجموعةٍ من تلك الدول، ولكن الجهل والفساد أديا إلى سلبيات كثيرة عانى منها مواطنو تلك الدول ولايزالون.
العسكر في كل دول العالم المتحضرة تنحصر مهمتهم في حماية بلادهم من جميع الاعتداءات الخارجية، ولكن عسكر تلك الدول عجزوا عن فعل ذلك؛ وظهر ذلك في مصر التي هزمت شر هزيمة في العام 1967، وفي سورية التي هزمت أيضاً في تلك السنة واحتل الصهاينة مرتفعات الجولان ولايزالون كما أنهم قصفوا بعض المواقع العسكرية مراراً دون أي ردٍّ من الجيش لانشغال ذلك الجيش بحماية النظام وليس بحماية الوطن والشعب. أما السودان فقد ضربتها «إسرائيل» ولم تجد أية مقاومة، ومثلها العراق التي احتلتها أميركا بسبب ضعف جيشها وخيانة بعضه، والشواهد كلها تؤكد أن تلك الجيوش كان يتم إعدادها لحماية حكامها العسكريين والتغطية على سوء تصرفاتهم.
إن العسكر في الدول المتحضرة لا يشكّلون درعاً لحماية فساد الحكام وطغيانهم، كما يفعل العسكر الذين يحكمون بعض الدول العربية. ولأن العسكر غالباً ليس لديهم خبرة سياسية واقتصادية وثقافية كافية لإدارة دولهم، فقد فشلوا في تحقيق الأمن والاستقرار والازدهار لشعوبهم، بل وذهب بعضهم إلى أسوأ من ذلك، فكان حكمهم استبدادياً دموياً، فرّطوا فيه بكل حقوق شعوبهم من أجل بقائهم حكاماً ومستبدين أيضاً.
وقد فشل العسكر جميعاً في تقديم نموذج حكم يعتمد على العدل والإنصاف والمساواة وضمان الحريات للمواطنين، ولكنهم نجحوا في ملء السجون بالأحرار وتعذيبهم، كما نجحوا في قتل الآلاف من أبناء وطنهم. رأينا ذلك في ليبيا وفي مصر مؤخراً كما رأيناه بصورة أشد بشاعة في سورية، حيث قتل حافظ الأسد عشرات الآلاف في حماة، وتبعه ابنه الذي ورث الحكم فقتل حتى الآن أكثر من مئة وخمسين ألفاً، كما شرد بضعة ملايين من السوريين.
قلت: إن طبيعة الغباء الذي يلازم بعض العسكريين هو الذي أوصل شعوبهم إلى الأوضاع السيئة التي نراها اليوم، ولعل الحالة المصرية خير شاهد على ما أشرت إليه؛ فالذين انقلبوا على رئيسهم الشرعي كان بإمكانهم أن يحققوا مكانة معقولة لهم بين المصريين لو أنهم أحسنوا التصرف، لكنهم ولغبائهم لم يفعلوا! تحدّثوا في بيان الانقلاب عن الحريات وحقوق المواطنين ولكنهم وبعد أقل من ساعة من الانقلاب أغلقوا كل القنوات الفضائية التي توقّعوا أنها لن تبارك ما فعلوا، ثم ملأوا السجون بكل المعارضين حتى من وقف إلى جانبهم! وجاءت كارثة مجزرة رابعة والنهضة لتؤكد أنهم اختاروا طريق الدماء لتحقيق أغراضهم، وكان بالإمكان أن تنطلي تعليلاتهم عن هذه المجزرة على البعض لو أنهم كانوا أذكياء في تصرفاتهم اللاحقة لكنهم لم يكونوا!
وجاءت الطامة في الحكم على مجموعةٍ من الفتيات الصغيرات بأحكامٍ قاسيةٍ يستحيل تصديقها، لمجرد حمل بالون عليه شعار رابعة، ثم تبع ذلك قانون التظاهر الذي لم تعرف له مصر بل ودول العسكر الأخرى له مثيلاً، والذي جرّ إلى اقتحام الجامعات وقتل بعض الطلاب واعتقال مئات من الطلاب والأساتذة. وقد أدى ذلك كله إلى فقد الثقة بالعسكر وتحالف الكثيرين ضدهم، ولو أنهم كانوا أكثر وعياً ونضجاً لجنّبوا أنفسهم عناء ذلك كله، ولكنه الجهل والاستبداد الذي سيقودهم وبلادهم إلى الأسوأ إن لم يتداركوا ذلك وفي أسرع وقت.
الإستبداد هو سمة حكم العسكر، وعلى هؤلاء ينطبق قوله تعالى: «ما أريكم إلا ما أرى ولا أهديكم إلا سبيل الرشاد» ( ،) فأقوالهم، حسب رؤيتهم، حكم نادرة الحدوث، وأفعالهم قدوة للعباد، والويل كل الويل لمن يجرؤ على انتقادهم أو حتى نصحهم ولو بكلمة واحدة، فقد يكون مصيره الموت وبتهمة الخيانة العظمى!
إن جوقة المنافقين هي التي تمد في عمر الطغاة، وهي التي تشجعهم على الاستمرار في طغيانهم، لأنهم وبسبب أولئك المنافقين يعتقدون فعلاً أنهم ليسوا مثل البشر، وأن الله منحهم قدرات خارقة لم يعطها سواهم، ولعل الإعلام المصري هذه الأيام يمثل هذه الحالة خير تمثيل، فمن يسمعه يصاب بالذهول من هول ما يسمع مما يقال عن الجنرال السيسي، فلم يعد الرجل من جنس البشر حيث ارتقى إلى درجة الملائكة بل أكثر من ذلك عند البعض! ولعل ما يسمعه من أولئك المنافقين هو الذي جعله يمضي قدماً في ارتكاب الأخطاء القاتلة التي ستعود عليه وعلى مصر بالسوء الذي لا يعلم مداه إلا الله.
إن الذي يتابع إنجازات الحكام العسكريين في البلاد العربية يدرك حجم الدمار الذي قادوا بلادهم إليه، ولو أنهم كانوا عقلاء واستفادوا من خبرات الآخرين لجنّبوا شعوبهم ويلات الفقر والذلّ والتخلف، لكنهم لم يفعلوا! وعندما يئست الشعوب من الإصلاح تحرّكت باحثةً عن التغيير الذي تحتاجه، وكانت بداية ذلك هو التخلص من حكامها المستبدين والبحث عن نظام حكم آخر يحقق لها مطالبها في العيش بحرية وكرامة مثل باقي شعوب الأرض الأخرى.
ولعل باقي الحكام العسكريين يستفيدون مما حدث لكي يتجنبوا اللحاق بمن سبقهم، وهذه الدعوة أيضاً للحكام الآخرين، فالإصلاح تحتاجه كل الشعوب العربية، وما كان مقبولاً بالأمس لم يعد مقبولاً اليوم، كما أن الإصلاح الحقيقي يصب في مصلحة الحاكم كما يصب في مصلحة الشعوب سواءً بسواء.
إقرأ أيضا لـ "محمد علي الهرفي"العدد 4105 - الإثنين 02 ديسمبر 2013م الموافق 28 محرم 1435هـ
ستاسي
الغباء وحكم العسكر!
هل هما قرينان لا يفترقان؟
يا خطيب الجمعة
يا خطيب الجمعة هل انت متأكد من كلامك و كل ما تتدعيه لا ينطبق على على حكام و دول اخرى و تخشى انت تقول ذلك ؟؟؟