العدد 4104 - الأحد 01 ديسمبر 2013م الموافق 27 محرم 1435هـ

السوريون في معركة الإنسانية المفتوحة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

تفقد النفس البشرية إحساسها بالشعور، عندما تغرق في الشيء. الجزَّارون، يألفون الدَّم لوناً ورائحةً. وحفَّارو القبور، تَألَفُ عيونهم الأجساد المطوية في أكفانها، فما عاد بياضها يعني لهم رُهاباً، وهكذا دواليك. وربما تكوَّنت هنا علاقة عكسية ما بين الإكثار في الشيء وقلة الإحساس به.

هذا الأمر لا يبدو بعيداً عن إحساسنا ونحن نغرق في سماع الخبر ورؤية صورته. هذا السَّيَلان من الأخبار الواردة والصادرة والمتناثرة والمتساقطة والمتدلية في كل أرجاء حياتنا، وما يتبعها من صور قاسية لا ترحم، يبدو أنها جعلتنا كالجزَّارين، وحفَّاري القبور، لا نُحِس ولا ترمش لنا عين!.

رأينا الحرب الأثيوبية الأريتيرية، وحرب الشيشان وأفغانستان وسيراليون والكونغو ومالي، وحروب «إسرائيل» على غزة ولبنان، واحتلال العراق، وصراع النيبال والسنغال والتاميل وأوغادين والفارك والصومال ونيجيريا ومجازر بوروندي! لم يبقَ شيء إلاَّ وتجرعناه.

هذه الصورة الكئيبة، جعلتنا قساةً إلى الحد الذي صرنا فيه لا نشعر بشيء حتى بمقدار الوَخْز. نحن لا نتكلَّم عن قاطِعِي الرؤوس، ولا عن حاملي رايات القتل بالظن، فأولئك وحوشٌ لَفَظَتهم الأرض قبل السماء، بل نحن نتحدث عن آحاد الناس وعامتهم والذين نحن منهم! بل وحتى الخاصة وأصحاب القضايا والشعارات.

قبل أيام، نَشَرَت الأمم المتحدة، تقريراً «مخيفاً» عن أطفال سورية. التقرير يقول: «إن عدد السوريين الذين فروا من بلادهم نتيجة الصراع الداخلي قد تجاوز الثلاثة ملايين لاجئ، بينهم ثلاثمئة ألف طفل من الذين يعيشون في مخيمات اللاجئين في لبنان والأردن قد لا يستطيعون الالتحاق بالمدارس حتى نهاية 2013».

وحسب تصريح المفوض السامي الأممي لشئون اللاجئين أنطونيو غوتيريس أن هناك «الآلاف ممن فروا من سورية ولم يتم تسجيلهم». وقدَّرَت المفوضية عدد الأسر (السورية اللاجئة) التي تعيش دون أب «بنحو سبعين ألف أسرة، إضافةً إلى نحو 3700 طفل يعيشون دون كِلا الأبوين».

ما يزيد الأمر ألماً، هو أن الأرقام تشير إلى أن «من بين 1.1 مليون لاجئ من صغار السن» توزعوا على لبنان بأعداد تصل تقديراً إلى 385.007؛ وفي تركيا بأعداد تصل إلى 249.304؛ وفي الأردن بأعداد تصل إلى 291.238، وأن «عدداً كبيراً من حديثي الولادة هو «بلا دولة جنسية» نتيجة اللجوء.

وحسب منظمة «اليونيسيف» في لحظة ما، فإن 10 في المئة من الطلاب السوريين «خرجوا من موقع الدراسة». والحقيقة أن التقرير أشار إلى «العاهة الطلابية» في الملايين الثلاثة اللاجئة إلى خارج سورية، لكنه لم يتحدث عن الملايين الأربعة المهاجرة في الداخل السوري، وهي أيضاً يشملها الألم. فالأكيد، أن المدارس الـ 4500 التي خرجت من الخدمة في الداخل السوري، هي تشمل اللاجئين والمهاجرين معاً، مع استحضار العدد الكبير من مهاجري الداخل، الذين حُرِموا من الدراسة، سواءً بسبب تحوّل الطلاب إلى معيل نتيجة غياب الأب، أو بسبب عدم القدرة على استيعابهم.

نحن هنا لا نتحدّث عن أرقام. فالأرقام لا تفيد إلاَّ في تعظيم المشهد، لكن المهم هو الإحساس بذلك المشهد، سواء أكان صغيراً أم كبيراً. والحقيقة، أن النظر إلى التفاصيل هو الأهم. بمعنى آخر، فإن إمعان التفكير في الحالة الواحدة، ضمن ملايين الحالات هو الأجدى للإحساس بما يجري.

عندما يتخيَّل المرء، أن طفلاً لم يبلغ السادسة من العمر، فَقَدَ أباه وأمه، وثلاثةً من إخوته، وهو هائِمٌ بين الخِيام المنصوبة في العراء، لا يلوي على شيء، يبحث عن مسحة يدٍ حانية، وحضن دافئ يُؤويه، في لحظة بدت فيه الرياح الشديدة والباردة تكشط خدَّيه الناعميْن بقسوة، وقد تجمَّدت دموعه على وجنتيه، فهل لأحدٍ أن يتخيَّل هذا المشهد الكئيب ليعيشه كما هو؟

هذه الصورة ليست يتيمةً، بل هي تتكرَّر في ثلاثة آلاف وسبعمئة طفل استطاعت مفوضية اللاجئين أن تسجِّلهم! هؤلاء الأطفال، هم أسهل صيد لعصابات التهريب العالمية، التي تقنصهم من بين حشدٍ غائب عن الوعي نتيجة الضياع والألم النفسي، لتشحنهم نحو غياهب عالَمٍ قاتم ومجهول، أقله الاتجار بالبشر أو السخرة أو العمل في مواخير الفساد!

كثيرون لا يشعرون بذلك. فأبناؤهم يذهبون إلى المدرسة في الصباح، يُجلِّلهم حنان الأبوين، وتُشحن جيوبهم بالمال، وحقائبهم بالأكل والشراب، وقلوبهم بالاطمئنان، ونفوسهم بالراحة، وتقلّهم حافلات خاصة أو عامة حتى باب المدرسة، وبالتالي، ليست هناك أية مشكلة تذكر بالنسبة لهم، كون العوالم باتت مفصولة عندهم، فما دام عالمهم آمن فما لهم وعوالم الآخرين! هذه هي المشكلة.

مأساة اللاجئين السوريين ليست مجرد أرقام، ولا هي نِتاج أزمة ويجب على أولئك البسطاء أن يدفعوا ثمنها كما يحب البعض أن يختصر ضميره! هي مأساة بشر مثلنا، وهي بالهَول الذي يُذهل العقول، ويُنسي ما قبلها ويُتعب ما بعدها من هجرات!

يذكر المؤرخون أنه وعندما هُجِّر اليونانيون من تركيا خلال الحرب العالمية الثانية، لم تَزد أعدادهم عن المليون وثلاثمئة ألف يوناني. وعندما هُجِّر البلغار، لم تزد أعدادهم عن المئتي ألف! وعندما هُجِّر الروس بعد الثورة البلشفية لم تزد أعدادهم عن المليوني لاجئي! وعندما هُجِّر الأرمن بعد المذابح العثمانية لم تزد أعدادهم عن الثلاثمئة وعشرين ألفاً. وعندما هُجِّر الكوريون بعد الحرب الكورية، لم تَزد أعدادهم عن الخمسة ملايين كوري! وحتى الفلسطينيين في لحظة تهجيرهم لم تزد أعدادهم عن المليون وثلاثمئة ألف لاجئ. أما في سورية، فإننا اليوم، أمام ثلاثة ملايين لاجئ في الخارج وأربعة في الداخل، والبعض لازال يتابع المعركة العسكرية عَلَّ فريقه يكون المنتصر فيها، أما هؤلاء فهم «مجرد إحصائية»!

أتذكر هنا ما كان يقوله الروائي الفرنسي أناتول فرانس: «أفضل حماقة الحماس على حكمة اللامبالاة».

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4104 - الأحد 01 ديسمبر 2013م الموافق 27 محرم 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 2:01 م

      صحيح

      ابدعت ابو عبدالله .. مقال اكثر من رائع يستحق التمعن

    • زائر 4 | 8:05 ص

      الأرقام والإحصائيات مخيفة

      ماذا يأتي من وراء الحروب

    • زائر 3 | 7:02 ص

      نسال الله اللطف للمحرومين

      وبالاخص الاطفال لا ارى نفسي الا انحني امام كل طفل محروم من حنان الابوين وعلى ذلك محروم ايض محروم من التعليم حسبي الله على هؤلاء الذين كانوا السبب

    • زائر 2 | 1:47 ص

      ارقام مخيفة وصورة قاتمة ووضع رهيب والنهاية غير معروفة..

      والامر الامر تعاظم حالة اللامبالاة بصورة مرضية، بحيث أدى استفحالها إلى لفت الانتباه لضرورة البحث عن العلاج الناجع لها قبل أن تؤدي لقصم ظهر الأمة بأكملها!! لانعلم ان كان الآتي اعظم ام ماذا؟؟

اقرأ ايضاً