بالمحدودية لدى الإنسان، ما لا يراه فهو عدم. أحياناً ثمة ما هو مرئي وشاخص؛ لكن طبيعته في الذهول والانشغال بنفسه والأثرة لا يرى كل ذلك، ولا يستثني البشر من ذلك! بعض البشر لا يرون بشراً حولهم وفي محيطهم. يرونهم عدماً! وربما ما دون العدم بمراحل!
الأشياء الصغيرة التي نحتقرها و»نستتفهها» هي التي من الممكن أن تجعلنا في مصاف الكبار؛ بل جزء كبير من صغار الأمور ترتقي بنا إلى مصاف ومراتب تعدّنا وتجعلنا من الكبار. لا يولد الإنسان كبيراً وقوياً ونابهاً. هو على الضد من ذلك. يولد بالوهن وما دون الضعف. «وخلق الإنسان ضعيفاً» (النساء، 28). في مصاف الأشياء في أطواره الأولى. يكتسب قوته الاتصال والمباشرة، لا النأي والعزلة.
خلق الإنسان من عدم ووهن. وبذلك الوهن صنع القوة في عالمه ومحيطه. الكبار والأقوياء والفاتحون والمصلحون لم يولدوا كباراً؛ وإن كانوا على موعد مع الجِسام من الأمور والمَهمّات. وحين كبروا لم ينظروا إلى ما ومن دونهم نظرة نفي وعلوّ وغرور واحتقار. بأولئك الصغار يكبرون وبمنأى عنهم تتعطل حركتهم وتؤجل مواعيدهم مع صنع الفارق في المحيط والحياة من حولهم.
ليس كل ما لا تراه عدماً. لكان الهواء الذي تتنفسه أولى بتلك الصفة. وهو الذي منه تستمد الحياة استمرارها. وفي الاجتماع البشري لا ينأى ذلك المفهوم عن حقائق متراكمة، بالنأي عنه يتعطل إعماران: إعمار الحياة، من حيث هي بيئة ومحيط، وإعمار الإنسان.
وفي الاجتماع البشري أيضاً، جلُّ الخلل والإرباك في العلاقات، والتنافر والشهوة والاستعداد لإيقاظ الفتن والحروب، يكمن وراءه ذلك العدم في النظر إلى الشركاء في المحيط، على أقل تقدير، إن لم يكونوا شركاء في الخلق والقيمة والمعنى والدور والأهداف. بلوغ ذلك الفهم من حيث طبيعته والسويّة قد يكون شبه غائب أو مغيّب، وقد يكون في حدود النص ولا مكان له في دنيا الممارسة والفعل.
بلوغ الإنسان (هيئة) ذلك المبلغ من اعتناق العدمية في النظر إلى من حوله لا يصنع منه كبيراً. يصنع منه عدماً في نظر الأغيار والضحايا، وإن لم يجالدوه من وهن، فكفى به سقوطاً وعدماً أنه لا مكان له في ضمائرهم والأرواح، وأنه عبء على العالم ومصدر شقاء.
ولأن العالم وُجد للاتصال لا العزلة؛ ولأن الإعمار بمستوياته المختلفة لا يمكن أن يتحقق في حال نكران وجحود وازدراء وعزلة وعدم؛ لن يكون الإنسان إنساناً وكبيراً وفاعلاً وحيوياً ومبادراً وخلّاقاً ومبدعاً حين يجد في كل ذلك قيمته وهدفه ومعناه؛ يصبح عندها جزءاً لا يتجزّأ من العدم وما دونه، وجزءاً من التفاهة وما دونها أيضاً!
وبالعودة إلى الأشياء الصغيرة التي صنعت من الكبار كباراً، ثمة حلقة مفقودة في طول وعرْض هذا الكلام: الذين اكتفوا بأنهم كبار وظنوا كذلك، لا تصدر عنهم إلا الصغائر من الأمور والتافه من الفعل. الذين هم دون القيمة ويحسبون أنهم أساسها لا يُسجّلون في رصيد الحياة وحركتها أي معنى للقيمة أو ما يدل عليها. والمصابون بداء أنهم الكبار وحدهم، يكبر العالم خارج محيطهم ويصغرون، ويتقهقر عالمهم، وتتخلّف أمكنتهم.
والحقيقة التي لا تحتاج إلى تذكير، أن العالم بدأ بذرّة. كل هذا العالم بدأ منها وهي التي لا تُرى بالعين. في احتقارها، احتقار لهذا العالم بكل نظامه المذهل والمُعقّد والذي تتكشّف أسراره منذ بدء الخليقة، وهو تكشّف لا يُذْكر أمام اتساعه واستحالة الإحاطة به وبتفاصيله.
وفي العالم اليوم؛ إنْ كان على مستوى الدول أو الأفراد، لن ترى الكِبْر والكبرياء ومن يجعلون أنفسهم وذواتهم في مصاف الكبار، إلا الذين هم دون ذلك بمراحل وأشواط، تستبدّ بهم عُقَد النقص والفراغ والتفاهة فيتوهّمون أنهم بدء العالم ونهايته، يحتقرون الجليل والعِظام من الأمور، لأنهم ولدوا للانشغال بالنقيض من ذلك. وكلّما ذكّروا أنفسهم بأنهم كبار، كان ذلك مدعاة للعالم كي يتذكّر كم هُم متناهون في الصِغر على أكثر من مستوى!
لهذا ربما نصاب بالدهشة والعجز أمام أصحاب البصيرة أكثر من أصحاب البصر. أولئك الذين يذهبون إلى ما بعد موضوع الرؤية، نفاذاً وعُمقاً. لا طاقة للعين بما يرون؛ لأنهم أسرى قيْد حاسّة على رغم كل إمكاناتها تظل محدودة، فيما أصحاب البصيرة بحواس عدّة. وليس وهْماً وتهيؤات حين نتيقّن بأن الأشياء الصغيرة هي التي جعلتنا كباراً!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4104 - الأحد 01 ديسمبر 2013م الموافق 27 محرم 1435هـ
رحم الله عبدا عرف قدر نفسه
اي لايحقر نفسه ولا يبالغ في استعلال نفسه يرى الاشياء كما هي في حقيقتها وشكرا على المقال الرائع