يوم الخميس الذي مضى أغمض الدكتور أسامة عبد الرحمن، الصديق النبيل، والشاعر الرقيق والمفكر الرصين، ورجل المواقف، عينيه إلى الأبد، ورحل إلى العالم الآخر. وكانت مقالته التي نشرت في هذه الصفحة، يوم الجمعة بعد يوم واحد من رحيله، هي آخر ما خط يراعه، الذي واصل العطاء قرابة أربعة عقود .
بدأت علاقتي بالراحل الكبير، قارئاً نهماً لكاتب واسع المعرفة، وعميق التحليل. وكان كتاب «البيروقراطية النفطية ومعضلة التنمية»، الصادر عن سلسلة عالم المعرفة بالكويت العام 1982، هو أول كتاب تقع عليه يدي، وأتمكن من قراءته. ومنذ تلك اللحظة، تابعت باهتمام ما يصدر عن الكاتب، إن في صيغة مؤلفات أو دواوين شعر، أو مقالات في صحف.
لم تتح لي فرصة اللقاء بالدكتور أسامة إلا في نهاية التسعينيات، من القرن الذي مضى. ومنذ ذلك التاريخ، تكررت لقاءاتنا، وتعززت علاقتنا. كان الحديث مع الراحل هو أشبه بالتجوال في حديقة كبيرة، تتنوع أشجارها. فهو المحلل السياسي الملتزم، صاحب المواقف، وهو عالم الاقتصاد المبدع، وهو أيضاً شاعر الجمال، كما هو شاعر للوطن ولفلسطين. يلتحم في ذاته عشق الوطن والأرض والشجرة والإنسان.
في ملحمته الشعرية «دفاتر الشجن»، يتكشف أسامة عن شاعر كبير، ترقى قامته إلى هامات كبار الشعراء العرب. يسوح في مختلف المواضيع، بغنائية عالية، والجامع المشترك لكل إبداعاته، هو أنه المثقف الملتزم، أو بحسب توصيف أنطونيو غرامشي المثقف العضوي.
لم تكن ملحمته «دفاتر الشجن»، هي الديوان الأوحد، فقد عرف بغزارة إنتاجه الشعري، أصدر عدداً من الدواوين الشعرية، أبرزها «استوت على الجودي»، و«شمعة ظمأى»، و«غيض الماء»، و«بحر لجي»، و«فأصبحت كالصريم»، و«موج من فوقه موج»، و«هل من محيص»، و«لا عاصم»، و«عينان نضاختان»، و«رحيق غير مختوم»، و«الحب ذو العصف»، و«أشرعة الأشواق»، و«الأمر إليك»، و«قطرات مزن قزحية»، و«يا أيها الملأ»، و«عيون المها»، و«أوتيت من كل شيء»، و«نشرة الأخبار»، و«شعار».
وله دراسات تنموية وفكرية، أبرزها «البيروقراطية النفطية ومعضلة التنمية»، و«الثقافة بين الدوار والحصار»، و«التنمية بين التحدي والتردي»، «وعفواً أيها النفط»، و«المثقفون والبحث عن مسار»، و«المأزق العربي الراهن»، و«هل إلى خلاص من سبيل».
وأكثر ما تميز به الراحل، على الصعيد الإنساني، هو زهده في الدنيا، وثباته على المواقف، ووفاؤه لأهله وأصدقائه وزملائه. ولم يكن هذا الثبات من غير ثمن، فقد أدى به ذلك، في نهاية المطاف إلى اختيار العزلة في صومعة الفكر. وكان زلزال الخليج العام 1990، قد أثر فيه كثيراً، حيث انشطر أصدقاؤه إلى مؤيدين ومعارضين، ولم يكن له أن يتفوّه بسوءٍ بحق أي منهم، واختار الطريق الصعب، اعتزال الناس إلا ما ندر، والانكفاء للكتابة والتأليف. وكانت، رغم المرارة التي عاشها، حقبة زاخرة بالعطاء. وكانت صلته بالكتابة الصحافية، قد انتهت إلى مقالة في الأسبوع، تنشر على صفحات «الخليج»، استمرت لأكثر من عقد، ولم يتوقف عنها إلا برحيله إلى الدار الآخرة.
ولد الراحل الكبير العام 1942 في المدينة المنورة، وحصل على الماجستير في الإدارة من جامعة منسوتا العام 1966، ثم على الدكتوراه، من الجامعة الأميركية بواشنطن العام 1970. التحق بجامعة الملك سعود بالرياض، بعد تخرجه، وتدرج في سلك التعليم، إلى أن حصل على الأستاذية العام 1979.
عمل عميداً لكلية التجارة، وكلية العلوم الإدارية، وكلية الدراسات العليا في جامعة الملك سعود. كما عمل مستشاراً غير متفرغ في وزارة المالية والاقتصاد وديوان الخدمة المدنية، ووزارة التعليم العالي. آمن بالتنمية المستقلة، وأهمية حشد القوة الذاتية العربية، لبناء نهضة جديدة، تشمل الأمة بأسرها.
وصفه زملاؤه، بالشاعر الموهوب، والكاتب المتوثب، الذي يشدك إليه حتى وإن اختلفت معه، وقالت عنه صحيفة «عكاظ» إنه صاحب مبدأ، وأصحاب المبادئ يدفعون في العادة ضريبة تمسكهم بها. وقال عنه الكاتب السعودي عبد المحسن هلال، إنه ولد وعاش ومات شريفاً كريماً. طلابه شغلوا المناصب العليا، أما أسامة، فرفض كل المناصب، وآثر العمل بصمت، حتى نجح أكاديمياً وإدارياً.
وقال عنه أحد طلابه، إنه المبدع والمفكر، المتعالي على كل المغريات، وإنه لم يجد في محيط الجامعة بين الطلاب والأساتذة، من لا يجل ويحترم أسامة عبد الرحمن. ووصفه آخر بالطود الشامخ، والشخص النزيه والجلد في العمل، وإنه المثقف وغزير العلم، والمبتسم أمام الشدائد، الصريح والوطني الذي لا يتردد عن الجهر برأيه في الشئون العامة.
وقد وصفه المؤرخ الراحل، حمد الجاسر، بالشخص الذي لم يغره بريق ولا بهرجة المناصب، بحيث تصادر شخصيته وحريته وإبداعه. وكان يحرص على الوحدة الوطنية، ويؤمن بقدر أمته العربية في الوحدة والتقدم والنهوض ما جعله مثالاً للأديب الملتزم.
وبالنسبة لي فقد فقدت فيه الصديق العزيز والأخ الوفي، والأستاذ الذي نهلت من علمه وثقافته الواسعة. وعزائي، كما هو عزاء جميع من أحبوه، أو تتلمذوا على يده، أنه ترك لنا فكراً نيراً، وإبداعاً ثرياً، سيظل نبراساً لهذا الجيل ولأجيال قادمة بإذن الله. رحمك الله يا أسامة، وأسكنك فسيح جناته، وألهم ذويك وأصدقاءك ومحبيك الصبر والسلوان، إنا لله وإنا إليه راجعون .
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4101 - الخميس 28 نوفمبر 2013م الموافق 24 محرم 1435هـ
مجرد ملاحظة
يجب أن تقدر لانك تكلمت عن محاسن مفكر ترك بصماته. لكن أرجو أن تسمح لى بكلمة: حقيقتا أنا شخصيا منزعج من هذه الثقافة. أسميها ثقافة الموت. عندما يكون الشخص حيا يرزق نادرا ما يكتبون عنه. لكن و بعد وفاته الكل يتبارون فى ذكر محاسنه. هل يمكن أن نغير هذه الطريقة فى التفكير و نمجد الشخص و هو حي؟ أن نسمى الشارع بإسمه و هو موجود بيننا؟ أن نقول له حسنا فعلت و هو يسمعنا؟ لماذا كل هذا التركيز على الموتى؟