ذهب الأكاديمي وعالم الاجتماع التونسي الطاهر لبيب في محاضرته «العرب والحب في زمن اللاحب» إلى رصد وتأويل مجموعة من التحولات منها عنف الجيوسياسة الذي أثر فينا وأقنعنا بخرائطه وحروبه، ما يعكس قابليتنا للعنف، والتحول الثاني هو ما أسماه بعنفنة الدين، والذي تحولت فيه الحياة إلى جحيم أرضي ينادى فيه بقتل الأبرياء، وذبح الأطفال أمام ذوي القربى، ومع التهليل والتكبير تنزع القلوب وتُؤكل ونحن في بداية القرن الواحد والعشرين، متسائلا كيف لحضارة الحب أن تتحول إلى ثقافة الموت؟ «حتى أصبحنا مطالبين بإثبات قدرتنا على الحب».
في بداية محاضرته أشار لبيب إلى المقولة التي ختم بها قبل عشر سنوات في نفس هذا المكان «مركز الشيخ إبراهيم للدراسات والبحوث» قائلاً «علينا أن نواجه هذه المفارقة العجيبة التي تحوّلت فيها ثقافة كبرى للحب إلى ثقافة موت، فأصبح أهلها مطالبين بإثبات قدرتهم على الحب لكي لا تثبت إدانتهم على زرع الموت، متسائلاً: فما الذي حدث مذاك الوقت؟»
وللإجابة على هذا التساؤل راح لبيب يستقصي مآلات الواقع العربي وتخومه فأشار إلى أن «ثقافة الموت عمّقت المفارقة، وتحوّلت التّهمة إلى اتهام جوّاني فينا. هذه المفارقة عمّقها موت متفرع سافر أو متنكر صارخ أو مستبطن أو مثرثر أو كاتم صوت، ضالته الحياة يخرسها أو يخفيها أينما، وكيفما نظر. أما التهمة فارتدت على أهل ثقافتها، فنحن العرب اليوم من عليه أن يتساءل وبشدة ما هذه الثقافة التي نسميها «هوية عربية إسلامية» وماذا دهاها لينتج فيها بعض أهلها بذور الموت؟». بهذه الأسئلة المفتوحة حاول لبيب أن يلج محاضرته «العرب والحب في زمن اللاحب» مساء يوم الاثنين 18 نوفمبر بحضور مجموعة من المثقفين والمهتمين ورواد المركز.
عنف الجيوسياسية... عنف الدين
وأضاف لبيب أن هذه التحولات لها بالطبع سياقها التاريخي مع عوامل كثيرة «ومن موقع الثقافة أقول ان هناك جهلاً جديداً له أتباعه في العالم العربي، ويضاف إلى هذا أفول المرجعيات الكبرى المعروفة، والتي تراجعت معها الأحلام العربية، ولا حاجة لتعميق هذا الجرح. وهناك عنفان تزامنا في الفترة الأخيرة هما عنف الجيوسياسة وما أسميه عنفنة الدين. أما بالنسبة لعنف الجيوسياسة فله أهداف ومصالح عسكروها ورسموها خرائط للعالم العربي. لكن الملفت للانتباه قدرة الجيوسياسة على استنهاض العنف في الداخل العربي، والأدهى والأمر من هذا الاستنهاض الخارجي للعنف الداخلي هو قابلية المجتمعات العربية للعنف المخطط خارجياً. والقابلية هذه أعمق وأوسع من مجرد القبول، حتى أصبح لكل عربي عربي يكرهه. ولعل هذا راجع لقرار السياسة بالدرجة الأولى، ولكن العبء على الثقافة أكبر، فالسياسيون يحولون كما شاؤوا الأعداء إلى أصدقاء بين عشية وضحاها، ولكن ما تستبطنه الثقافة من تباعد صعب أن يتجاوز ويتطلب ذلك جهداً صعباً وكبيراً».
وعما أسماه بعنفنة الدين أشار إلى أنها «المفاجأة الأصعب والأكبر في تاريخ العرب المعاصر، فباسم الإسلام «وأي إسلام» هبت من وراء القرون، وتحت رايات الظلام كائنات مسكونة بالموت، فالإرهاب الذي تبرأ العرب منه طويلاً لفظا واصطلاحا عادت إليهم تهمته من حيث لا يحتسبون عاد إليهم من بوابة الدين. فاليوم ليس لنا أن ننكر أن إرهابا بدائيا وحشيا يسعى بيننا، وأن يومياتنا أصبح يكتبها موتانا».
واستدرك «لا أتحدث عن إيمان أو عقائد بل عن تجليات تبرق أمام أعيننا تجسم الكره الذي هو نقيض الحب، وأوال المفزعات أن يكون الطريق إلى الله هو القتل، وقياسا على ذلك أن يكون جحيم الأرض طريقا إلى جنة الآخرة، والوصول إلى الحور العين طمس الحور في عيون المرأة الدنيا وقيسوا على هذا أشياء كثيرة. هذا الجحيم الأرضي عجينة أبرياء من عامة الناس، فيها ينادى بقتل الأطفال، فيها الذبح أمام ذوي القربى، فيها تنزع القلوب وتؤكل، كل هذا مع التهليل والتكبير، كيف أمكن التدرب على هذه الثقافة في بداية القرن الواحد والعشرين؟. لقد تم ذلك بأيسر الطرق بالتكفير جملة، فكل جماعة تكفر من ليس منها ومن كُفر أهدر دمه فقتل، ولو كان مجتمعا بأسره، إذا أراد القتل أن يتمنهج فما عليه إلا أن يتطيّف أو يتمذهب».
الآركي تي
نوه لبيب الى أن «هذه التجليات تطرح سؤالاً على الحس المشترك لدى عامة الناس. ما طبيعة هذه النفس البشرية المهووسة بالقتل، بهذه الصورة؟» فأجاب «ان هذا موكول إلى التحليل النفسي فهذا نوع من الهوس الذي هو بالدرجة الأولى من أعراض العجز أو اليأس، فلا قوة في هذا القتل، المهووسون في التحليل النفسي يحتاجون أولاً لإمكانية الموت لحل النزاع الذي في نفوسهم، هذا النزاع هو ما تلاقيه الرغبة من صعوبة في التحول إلى الواقع. الرغبة جماعياً مرتبطة بنموذج أصلي قديم لا تاريخي ما يسمى في التحليل النفسي «بالآركي تي» وهذا الشيء يواجه صعوبة في التحقق في المجتمع الحديث لأنه في «الهوامات في الفانتزمات» والمهووس نفسه لا يقدر أن يتحمل النموذج الأصلي الذي بناه، فهو أكبر منه ولذلك يعاني من العجز فلا يجد له حلاً إلا بالعنف سواء بالقتل في المجتمع أو في الانتحار».
وعن المكبوت أضاف لبيب «مادام الموضوع هو الحب في علاقته باللاحب، فلا مناص من الكلام عن المكبوت الذي لا يستسلم مهما كانت قوة الموت، إذ تتحول هذه المكبوتات إلى نزوة عدوانية بعد أن سد عليها أصحابها سبل التصعيد لأن المجتمعات المتقدمة تسمح بالتصعيد فالمكبوت يصبح رساماً كبيراً أو شاعراً كبيراً ومن يهدم الدنيا لا يبقى له شيء يصعد فيه، ووسائل التصعيد هي الإبداع الفني والاستبصار الفكري وهذان بالتحديد هما ما يطالهما المنع».
وعلى سبيل الظرافة رأى أن جورج أورويل صاحب رواية مزرعة الحيوان مع وزاراته الثلاث التي مهمتها نقيض عناوينها وزارة الحقيقة للدعاية والكذب، ووزارة السلم للحرب، ووزارة الحب لتعذيب المحبين، «أغلب الظن أنه لو كان موجوداً اليوم لاقترح وزارة الضمير للتكفير، ولو كان محمود درويش موجودا الآن لاعترف أنه كان محظوظاً في حبه لريتا لأن ما يمنعه منها هو بندقية فقط، أما اليوم فهناك سيوف وخناجر وأحزمة ناسفة وأشلاء».
وخلص إلى أن «زمن اللاحب هو مثل «زمن الكوليرا» عند ماركيز لا تحدده الأحداث، وإنما تحدده امتدادات الحدث في الزمن الاجتماعي وخوف مجهول المصدر، يدفع الأفراد للاحساس بحياة معلقة بخيط رفيع لا يعرفون متى ولا أين يقطع، زمن اللاحب هو هذا الزمن الاجتماعي الذي تبدو فيه الذات متراجعة أمام الموت».
العدد 4095 - الجمعة 22 نوفمبر 2013م الموافق 18 محرم 1435هـ
وإجابته ظريفة أيضاً
. لقد تم ذلك بأيسر الطرق بالتكفير جملة، فكل جماعة تكفر من ليس منها ومن كُفر أهدر دمه فقتل، ولو كان مجتمعا بأسره، إذا أراد القتل أن يتمنهج فما عليه إلا أن يتطيّف أو يتمذهب».
سؤاله فعلأ في محله
الجحيم الأرضي عجينة أبرياء من عامة الناس، فيها ينادى بقتل الأطفال، فيها الذبح أمام ذوي القربى، فيها تنزع القلوب وتؤكل، كل هذا مع التهليل والتكبير، كيف أمكن التدرب على هذه الثقافة في بداية القرن الواحد والعشرين؟