يبلغ عدد سكان العالم اليوم «زهاء» السبعة مليارات إنسان. ما يعني أن هناك سبعة مليارات من الأشكال والعواطف والرغبات والطموحات والمآسي. وأيضاً هناك سبعة مليارات تجربة. فالإنسان (كل إنسان) هو تجربة بحدِّ ذاته. فالتجربة قد تكون في الدول وقد تكون في المؤسسات وقد تكون في الأفراد كذلك.
قبل أيام، أقامت حكومة شنغهاي في الصين حفلاً نُظِّمَ خصيصاً «للجمع بين القلوب الوحيدة» حضره أربعون ألفاً من النساء والرجال، بعضهم بلغ الستين والسبعين عاماً. هَدَف ذلك البرنامج، هو «تشجيع الذين يعانون من الوَحْدَة على العثور على شريك في الحياة».
بادرت الصين لحل قضاياها الاجتماعية الملِحَّة، بعد أن «زاد معدل الطلاق عن معدل الزواج العام 2012 لأول مرة». لذا، فهي لم تُحدِّد شكلاً معيناً لضرورة التوافق ومن ثم الزواج، بل أطلقته، ليشمل المطلقات والأرامل أيضاً.
في كل الأحوال، تبقى هذه التجربة جيدةً، وفرصةً للتأمل في كيفية اجتراح الأفكار لرتق الهوة الاجتماعية. وربّما كانت ظروف الصين تختلف عن ظروف البلدان الأخرى، وخصوصاً في نِسَب الطلاق، لكن الحقيقة هي أنها ومن حيث المبدأ، فكرة، تجتمع فيها الفولكلورية والإبداع العملي، ويُمكن مواءمتها كي تصلح للتطبيق في أماكن أخرى من هذا العالم المتعدد الثقافات.
ما يهمني في ذلك هو أن أتحدّث عن وضعنا الاجتماعي، فيما خصَّ مسألة «الوَحْدَة». فعالمنا العربي يعجُّ بالرجال والنساء، الذين تقتلهم الوَحْدَة «دون مبرِّر» بعد أن أعيتهم الفرص أو الظروف القاهرة أو عدم المبادرة أو القَدَر في ألاّ يكونوا متزوجين ولديهم أسَر صغيرة (وليست مركَّبة)، ليدخلوا عالماً اجتماعياً، فُرِضَ عليهم أن يكون مأزوماً. أزمته ليست ناتجة من أولئك الناس غير المتزوجين الذين يعيشون الوَحْدَة المُدَّعاة، بل هي في كيفية تحويل وَحْدَتهم إلى تشاركيَّة، يكونون فيها سعداء، وفي كيفية تغيير نمط تفكيرهم في إرجاع الأسباب إلى مسبِّباتها الصحيحة.
ما يعنينا من ذلك القول هو أصل المشكلة، المتمثلة في «الوَحْدَة» والتي قد يعتبرها البعض نتاجاً طبيعياً لعدم الزواج، وإقامة حياة أسَرِيَّة. وقد تكون تلك النظرة صحيحةً ولها وجاهة في أن يقتنع بها كثيرون، لكن الحقيقة، أن الوَحْدَة هي ليست نتاجاً حصرياً لعدم الزواج، ولا الأخير سبباً لها بالأساس. فكم من متزوجين وهم يعيشون وَحْدَة قاتلة، بسبب مشاكل عائلية. وكم من رجل عَزَبٍ لا أهل له؛ وامرأة عَزباء لا زَوْجَ لها؛ لا يعيشون ضَنَك المتزوجين ومأساتهم.
يجب أن نعلم، بأن الحياة ليست شيئاً واحداً مسكوكاً لا ثنائية فيه، بل هي مجموعة متنوعة من الأشياء، القابلة للتفرُّع والتولَّد، وبالتالي، تتعدد الخيارات أمام الناس. خيارات أنتجتها التجربة الإنسانية، وخيارات تُنتجها «عادة» عقول البشر المبدعون، الذين لا تُوقِف حياتهم ولا إبداعاتهم أية عقبات، لأنهم لا يرونها «أي العقبات» إلاَّ عندما يرفعون نظرهم عن هدفهم كما قال فورد.
باعتقادي، أن المهم في كل ذلك، هو هندسة الحياة بشكل جيد، ثم طريقة تآكل الزمن فيها، بحيث لا يشعر المرء خلالها بالوَحْدَة، ولا أن القاطرة قد مَضَت عنه، ولا أنه في منقصة أو فاقة أو مصاب جَلَل. إن أتمَّ أحدٌ علمه (لا أن تسكَّع في الطرقات) وأصبح يَسمُق فيه، فهو حتماً لن يكون وحيداً، أو على أقل تقدير، ستُزاحِم وَحْدَته أشياء أخرى لها قيمة عالية، سيُقرَن اسمه بها، واسمها به كما هي حوادث التاريخ المتوالية.
أيضاً، إن انغمس أحدٌ في أعمال إنسانية، أو مشاريع اجتماعية وخيرية وخلافها يصل صباحه بليله فيها، فأفاد البلاد والعباد بها، أو كانت له مهنة ذات شأن علمي وإنساني كبير، أصبح منارة وقامة كبيرة، لا تغادرها الشمس، ولا يُرخي عليها الليل سدوله.
نعم، الزواج وتكوين الأسرَة خيار سُنَنِيْ، وهو محمودٌ بالتأكيد، وتُشَجِّع عليه الأديان والفطرة البشرية، لكن، إذا حالَت الظروف «لأيِّ سببٍ من الأسباب» دون أن يتم ذلك، فلا يعني أن الدنيا قد انتهت، ولا أن قيامة المرء قد حانت، وإن اعتقد أحد بشيء غير ذلك، وَجَبَ عليه أن يُصحح فكره.
كبير أعلام المفسِّرين والمؤرخين الإمام محمد بن جرير الطبري عاش أعزب. وأشهر عالمٍ في الفيزياء والرياضيات خلال القرن الثامن عشر إسحاق نيوتن عاش أعزب. وأستاذ المنطق والميتافيزيقيا بجامعة كونسبرج عمانويل كنت عاش أعزب. وعالم الرياضيات المجري بول إيردوس عاش أعزب.
أما من النساء، فقد عاشت الشاعرة والملكة زيب النساء، البنت الكبرى لسلطان الإمبراطورية المغولية أبو مظفر أورنكزيب عَزْباء. وعاشت ملكة انكلترا وأيرلندا إليزابيث الأولى عزباء. وعاشت جميلة بنت ناصر الدولة بن عبد الله بن حمدان صاحب الموصل (وهي أجمل النساء) عزباء.
تُرَى، هل يمرُّ كتاب ديني اليوم، ونحن في العام الثالث عشر بعد الألفين، دون أن يُذكَر اسم الإمام الطبري رغم مضي ألف وتسعين سنة على رحيله؟ وهل تمرُّ نظرية فيزيائية/ رياضية، دون أن يُذكَر فيها اسم نيوتن، رغم مضي مئتين وستة وثمانين سنة على وفاته؟ وبقية التساؤلات تسري على الأمثلة المذكورة أيضاً.
أسرد هنا قصة من التاريخ، تُعضِّد ما كنتُ أقوله. فقد جاء في كتب التاريخ، أن الطبيب الحاذق، والعالِم المشهور، إسحاق بن سليمان الإسرائيلي (ت. 320هـ) عَمَّرَ مِئة عام ولم يتزوَّج فقِيلَ له: أيَسُرّكَ أن يكون لكَ وَلَد؟
قال: أمَا وقد صار لي كتاب الحميات فلا.
وكان يقول: لِي أربعة كُتب، تُحيي ذِكْرِي أكثرَ من الولَد: كتاب الحميات، وكتاب الأدوية والأغذية، وكتاب البول، وكتاب الأسطقسات.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4093 - الأربعاء 20 نوفمبر 2013م الموافق 16 محرم 1435هـ
مشكور
بارك الله فيك كاتبنا المبدع
من خلف ما مات
اعتقد ان اسحاق بن سليمان سيكون لة منة على كل مولود جديد بسبب كتب الحميات والادوية...واى منة ؟
مشكور
جزاك الله خير اخوي. غيرت لينا عن السياسة
فكرة جميلة .
هيا اطرح موضوع الزواج بشكل كبير وميسر فسترى الكل يتزوج .وليبدأ العلماء بطرح الفكرة وجمع التبرعات .فكل دول العالم تتعاون على الخير ومساعدة المحتاجين .
الأهم
((((الوَحْدَة هي ليست نتاجاً حصرياً لعدم الزواج، ولا الأخير سبباً لها بالأساس. فكم من متزوجين وهم يعيشون وَحْدَة قاتلة، بسبب مشاكل عائلية. وكم من رجل عَزَبٍ لا أهل له؛ وامرأة عَزباء لا زَوْجَ لها؛ لا يعيشون ضَنَك المتزوجين ومأساتهم))))
مقال حساس ولكنه واقعي بامتياز
مقال حساس ولكنه واقعي بامتياز خصوصا وانه يعني النساء والرجال معا . شكرا للاستاذ ابوعبدالله على مقالاته المتميزة في السياسة وخارج السياسة
nice
nice artical
Thanks .