كنت قد طلبت من الشيخ الدقاق أن ييسر لي حضور إحدى حلقات البحث الخارج، كنت أريد أن أعاين الممارسة الأصولية في مقاربة النص الديني.
برفقة الشاب الودود جدا الشيخ عادل الهنان، كنت أعبر مجموعة من أزقة قم المتداخلة حد الالتباس، إلى حيث مدرسة المجتبى، ثم منزل الميرزا آية الله الشيخ جواد التبريزي الذي صار مدرسة بعد وفاته في العام 2006. هناك حيث حلقة السيد (منير الخباز) يقدم حلقة (البحث الخارج) للذين أنهوا مرحلة المقدمات (بكالوريوس) والسطوح (ماجستير).
بحث الخارج والسيد منير الخباز
(بحث الخارج) هو حلقة بحث أصولي يقع خارج المصنفات والكتب، يقدم فيها الأستاذ الباحث (لا بد أن يكون وصل أو شارف على مرحلة الفقاهة) طرقه الاستدلالية التي يتبعها في استنباط الأحكام الشرعية وترجيحها من النصوص المعتمدة. لم تكن الكراسي تتسع للحضور، جلست في مؤخرة القاعة على الأرض إلى جنب مجموعة من المشايخ، وقد بدا وجودي وسطهم لافتاً.
الطلاب جميعهم تقريباً معممون، وفي الوقت الذي قد كنت أكتب بعض جمل الأستاذ في كراسة صغيرة، لم أجد أحداً يكتب شيئاً، وهذا ما جعلني أبدو أكثر لفتاً. عرفت لاحقاً أن المحاضرة تكتب وتوزع على الطلبة.
بدا لي السيد (منير) والمكرفون أمامه كأنه يقرأ من ورقة، وذلك لدقة تنظيم الكلمات والأفكار وتسلسل الاستدلال، عرفت لاحقاً ألا ورقة أمامه، وأنه يقدم درسه مشافهة، وقد مكنته ممارسته الحوزوية تدريساً وتلمذة منذ كان عمره 12 عاماً، من أن يتوافر على هذا الحضور الذهني المميز.
كان البحث عرضاً للممارسة الاستدلالية الأصولية وكيفية ترجيح الأدلة لحديث «رفع عن أمتي ما لا يعلمون» بدت الممارسة الاستدلالية التي يقدمها السيد وعرة وصعبة، وخصوصاً وأنها مسلحة بمجموعة من المصطلحات الأصولية، من نحو: منجزية العلم الإجمالي، المنجزية العقلية، الشك البدْوي، الحكم المجعول، الأحكام الحرجية، الاحتياط من الشك.
تذكرت تعليقا لحسن حنفي يقول فيه، إن الشيعة قد طوروا علم الأصول وفرعوا فيه الكثير، لكن مصطلحاته صارت مغلقة عليهم، وذلك لكثرة التفريعات فيه، ولأنه لا يدرس إلا في الحوزة. ربما يكون هذا سرّ أصالته وقوته ومقتله في الوقت نفسه. والسبب في ذلك يعود إلى أن علم الأصول في تكوينه هو محصلة التقاء مجموعة من العلوم، علوم اللغة: البلاغة والنحو والدلالة، وعلوم الحديث، وعلم المنطق، والفلسفة. من حصيلة هذا التركيب تكون علم الأصول. لقد كفّ هذا العلم عن التغذية من العلوم الأخرى، ولم يعد مفتوحاً على العلوم الحديثة، وصار مكتفياً بذاته، وهنا مكمن مقتله، فقد تطورت هذه العلوم التي فيها سرّ تركيبه، وهو لم يعد يضيف إلى نفسه من تطورها. هو لم يعد محصلة حوار علوم بعضها مع بعض.
الدرس الثاني للسيد منير، كان في منزل الميرزا جواد التبريزي الذي صار حوزة، ويعد الشيخ محمد سند والسيد منير من تلامذة الميرزا التبريزي البارزين، وقد تسلم السيد منير مقعد أستاذه. كان البحث حول قاعدة التجاوز: إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره، فشكك ليس بشيء.
بدت حلقة البحث الثانية أكثر حيوية، وجدت الطلاب يعترضون بجرأة على الأستاذ، اعتراضاً يستنفر أقصى قدراته الأصولية، ويحاجج أحياناً الطلاب في ردود الأستاذ، وحين يسخن النقاش، يلجأ السيد منير إلى النكتة بمهارة لطيفة، ليخفف الأجواء، ولا يكسر من جدية البحث الضحك الذي يسود للحظات القاعة.
كوجة (منعطف) كمال الحيدي
إنه المنعطف ذاته (كوجة12) لكنه يقود إلى منعطف أشد خطورة، إنه منعطف السيد كمال الحيدري، كنت اتصلت بالسيد بتوصية من الصديق والأستاذ عبدالجبار الرفاعي. كما أخبرني الرفاعي، فإن السيد يستقبل المكالمات بنفسه، ويتواصل مع الآخرين بشكل مباشر.
هناك حيث منزله الخاص 3359 التقيت به، كان في زيارته في مكتبته مجموعة من المعممين الشباب، كعادته بدا متحمساً وطلقاً في حديثه، قدمت له النسخة الوحيدة التي لدي من كتابي (كيف يفكر الفلاسفة). أخذ يتصفح فيه، وهو يواصل حديثه في منعطفه الأشد خطورة (إسلام الحديث وإسلام القرآن) وهو يقول لا قداسة لغير القرآن والمعصومين، وجميع العلماء في تاريخ المذهب عرضة للنقد، يقطع فجأة حديثه ليسألني عن كتابي. اخترت أن أدخل عليه من «فصوص الحكم» لابن عربي، فهو قد أشبعه شرحاً في دروسه الحوزوية.
بلهجة الواثق، قال لي: هل اعتمدت شرح (أبي العُلا عفيفي) فهو أشمل الشروح وأكثرها حداثة، قلت له نعم، قال لي لقد أحصيت عليه مجموعة أخطاء في فهم نص ابن عربي، وبمهارة فائقة يتنقل السيد بين عيون زواره، من موضوع إلى آخر، شابكاً الموضوعات لا على قاعدة (الشيء بالشيء يذكر) بل على قاعدة (ومثاله كذا....).
قال معترضاً على (أبي العُلا عفيفي) هكذا يسمي ابن عربي الأشياء، فكيف تريد أن تفهمه على غير ما يسمي هو، تماماً كتسمية الشيخ الطوسي بـ (شيخ الطائفة)، هو سُمي هكذا مع أني لا أقبل هذه التسمية ولا أقر أن تُعطى له. في الحقيقة لم أتمكن لحظتها من الربط، لكني ذهلت لهذه الانتقالة. بدا السيد شديداً على الشيخ الطوسي (385-460هـ) ربما مرد ذلك إلى أن كتابيه (الاستبصار) و(تهذيب الأحكام) من معتمدات إسلام الحديث الشيعي، الذي يخوض السيد معركته معه الآن.
ويشمل هذا الإسلام (إسلام الحديث) الفقه المؤسس على هذه الأحاديث. فاجأني أنه كان يدافع بحماسة عن المرأة، ينتقد إسلام الأحاديث المتحيّز ذكورياً ضدها، يقول إن الرسائل العملية كلها تذهب إلى أن حق المرأة الجنسي من زوجها يقتصر على مرة كل أربعة أشهر، ويمكن للرجل أن يكتفي بدخول (الحشفة) ولو لم يحدث الإشباع الجنسي بالنسبة إلى المرأة! في حين تُثبت هذه الرسائل للرجل الحق كلما أراد. يقول السيد هذا يتعارض مع إسلام القرآن الذي يقول: «وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ» (البقرة: 228).
عالم المخطوطات
في حضرة المحقق الكبير (السيد أحمد الحسيني) لا تملك غير الدهشة، من قدرة هذا الرجل على العمل الدقيق والدؤوب. بدا مركزه بطوابقه الأربعة (مركز إحياء التراث الإسلامي) تحفة معمارية وعلمية، دخلت على السيد وهو غارق وسط مخطوطاته، تحيطه الكتب المعتقة بالتاريخ من كل جانب، يعمل في تحقيق الكتب وفهرسة المخطوطات وتراجم العلماء. فهرس مكتبة السيد الحكيم في النجف قبل أن يضطر إلى الخروج من العراق في السبيعينات. عمل على تحقيق كتب مهمة في مكتبة آية الله مرعشي نجفي، منها كتاب (رياض العلماء وحياض الفضلاء) الذي يؤرخ في الدولة الصفوية للعلماء السنة والشيعة، وهو يقع في حدود 10 مجلدات وقد فقدت منه 5 مجلدات تقريبا. ولأهمية عمل السيد، فسأخصص له حلقة خاصة لنشر تجربته في التحقيق.
العدد 4088 - الجمعة 15 نوفمبر 2013م الموافق 11 محرم 1435هـ
شكرًا
شكرًا على هذا المقال الشيق، ولكن أدعوك لمراجعة الفقرة الثانية التي قلت فيها بأن المقدمات (بكالوريوس) والسطوح (ماجستير) والحقيقة بأن المقدمات والسطوح والسطح العالي كلها تعادل البكالوريوس، ومرحلة الكفاية تعادل الماجستير، أما أستاذ البحث خارج فيجب أن يكون قد وصل إلى حد المرجعية، والكفاية قد يدرسها الفقيه ومن شارف على الفقاهة.