العدد 4088 - الجمعة 15 نوفمبر 2013م الموافق 11 محرم 1435هـ

آخر ترجمات الخزاعي: «معطف» و«أنف» غوغول الساخط على تناقضات مجتمعه

في واحدة من آخر ترجماته، يستعرض المترجم محمد الخزاعي في كتاب «المعطف والأنف لنيكولاي غوغول» اثنتين من قصص الكاتب والروائي الروسي نيكولاي غوغول، «الأنف» (1836) و»المعطف» (1842). الترجمة منقولة عن ترجمة انجليزية قدمها العام 1972 رونالد ويلكس ضمن سلسلة «كلاسيكيات بنغوين» التي نشرتها دار بنغوين، والكتاب صادر في طبعة أنيقة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، في 124 صفحة من القطع المتوسط، وهو أحد إصدارات وزارة الثقافة بمملكة البحرين.

يقدم المترجم في مقدمته نبذة موجزة عن مؤلف القصتين نيكولاي غوغول وأهمية كتاباته في الأدب الروسي، إذ يعتبره «أكثر الكتاب الروس موهبة، وأحد دعائم نهضة روسيا الأدبية في القرن التاسع عشر»، مرجعا ذلك إلى أسلوبه الذي يجمع بين الواقعية والسخرية القاتمة ونظرته الكوميدية الغريبة» وهي كما يضيف ميزات ما عرف بعدها في القرن العشرين بأدب اللامعقول.

ويشير الخزاعي إلى أن نبوغ هذا الكاتب بدأ يتضح «من خلال مجموعة من القصص من بينها القصتين المترجمتين»، كما يوضح أن لغوغول قصة شهيرة كتبها العام 1836 هي قصة «المفتش العام» التي قدمها المسرح البحريني في مطلع السبعينات «عندما أنتجها مسرح أوال وفرقة ممثلي المنامة باللغة الإنجليزية».

في القصة الأولى «المعطف» التي تمتد على 60 صفحة يأخذنا المترجم مع القصة التي كتبها غوغول العام 1842 ويستعرض فيها قصة أكاكي أكاكيفيتشن، الموظف البسيط الذي عاش ومات دون أن يفتقد أحد وجوده، لولا معطف وشبح، أو قصة شبح ظلت ترعب قاطني مدينة سان بطرسبرغ.

يخصص الكاتب الفقرات الأولى من قصته للحديث عن ظروف تسمية أكاكي بهذا الاسم الغريب، بأسلوب ساخر شديد المرارة، هو كما أورد المترجم «مألوف من غوغول». ولمن لا يعرف غوغول، فهو واحد من أهم الكتاب الروس، وقد سخر من الفساد المجتمعي وفساد السلطات في المجتمع الروسي في العصر الذي عاش فيه. يسخر غوغول من أعمق المآسي البشرية بقصص قد تبدو غريبة في حس فكاهتها والكوميديا التي تمتلئ بها. هاهو هنا في المعطف يسخر من اسم بطله، يعتبره اسماً لا يليق سوى بأولئك المهمشين الذين لا يلاحظهم أحد ولا يشعر بوجودهم أحد ولا تأبه الدنيا بأسرها لآلامهم ومعاناتهم، بل ولا تشعر بفقدهم ولا بعظم رزاياهم. في وصفه لحال بطله يسخر من كل أعراف وقوانين مجتمعه، يسخر من رجال الدولة وموظفيها ومن اعتدادهم المبالغ بمناصبهم الرسمية واساءتهم استخدامها واهانتهم للناس البسطاء.

ولا يكتفي بذلك بل يصور عظم مأساة هذا الرجل «أكاكي» حين يتناول بشكل كوميدي مر قاس كيف يحاول جاهداً ويسعى إلى الحصول على معطف جديد بدل معطفه الرث البالي الذي لم يعد يحتمل إضافة مزيد من الرقع. تبدو عملية شراء المعطف واختيار قماشه وبطانته مشروع حياة بالنسبة إلى هذا الرجل الذي يوفر الكثير من راتبه بل ومن المكافأة السنوية ويعقد اجتماعات مطولة مع الخياط بل ويقوم الاثنان بزيارات مكثفة لمحلات الأقمشة... فقط من أجل شراء معطف.

بالطبع يسترسل غوغول في كوميدياه الغريبة وفي قساوة وصفه لحال هذا الرجل حين يجعل هذا المعطف الذي يغير حياته على جميع الأصعدة، يضيع منه في اليوم الذي يقتنيه فيه. وتبدو الدنيا وكأنها توقفت في عين هذا الرجل عند حادث سرقة معطفه الجديد... مشروعه الحياتي الضخم.

يفقد أكاكي كل شيء بعد المعطف، ما تبقى من كرامته وكبريائه وصولا إلى حياته. لا يشعر لموته أحد، يعرف زملاءه في العمل الأمر بعد أيام، وببساطة شديدة يتم استبداله بموظف آخر يقل عنه خبرة ومهارة ... ينساه الجميع.

لكن لأن غوغول نذر على نفسه محاربة الفساد في مجتمعه عبر أسلوبه القصصي الكوميدي اللاذع ذاك، فلم يشأ ختم قصته بموت هذا الرجل الذي لا يشكل وجوده أو عدمه أي قيمة لحفظ توازن الأشياء من حوله. يجعل غوغول شبح هذا الرجل «المهمش» يعود في صورة أو أخرى، ليرعب كل أولئك الذين تسببوا له بالأذى في حياته ولكل من جردوه من إنسانيته وكرامته، ربما حتى اللصوص الذين سرقوا معطفه. غوغول يحاكم المجتمع بأكمله في هذه القصة لمعاناة المهمشين. جميعهم مسئولون عن ذلك.

الأنف

في الرواية الثانية التي تمتد على ما يقرب من 47 صفحة، يحكي غوغول قصة مفتش الكليات الرائد كوفاليوف الذي يستيقظ يوماً ليكتشف هروب أنفه فيبدأ رحلة غريبة في البحث عنه. لا يجد مبررا يقدمه للناس حول اختفاء أنفه فيصاب برعب شديد يجعله يلاحق الأنف في كل أرجاء المدينة، مدينة بطرسبرغ أيضاً. وما يزيد الأمر سوءاً هو أن مفتش الكليات المتغطرس هذا يظن أن أية إهانة لأي مفتش كليات في أي مكان في روسيا هو بمثابة اهانة شخصية له، وكأنه حامل «ارستقراطي» لهذا اللقب وللمنصب الذي يستوجبه.

لا نعلم إن كان الحلاق إيفان يعقوبليفيتش هو المسئول حقّاً عن قطع أنف كوفاليوف، لكن الأنف على أية حال يظهر أولاً في خبز كانت قد أعدته زوجة إيفان، ويحاول هذا الأخير التخلص من الأنف لكنه لا يفلح. في الواقع يهرب الأنف منه ويظل يجول أرجاء المدينة بل ويتعامل باستخاف مع صاحبه الرائد كوفاليوف.

خلال تجواله في المدينة بحثاً عن أنفه، يواجه الكثير من المواقف التي تكشف السوء الذي يملأ نفسه وربما ذلك الذي يملأ نفوس من يقابلهم. على أية حال تكلل جهود كوفاليوف في العثور على أنفه بالفشل لكن الأنف المتمرد يعود إلى مكانه على أية حال بعد أيام.

وبعد...

ليست هذه الترجمة الأولى لروايتي «المعطف» و»الأنف» لغوغول، لكن ذلك لا يضير، فأهمية الروايتين تأتي من أهمية كاتبهما الذي يعده كبار الكتاب الروس أب الرواية الروسية وهي التي خرجت من معطفه كما يشير الكاتب الروسي الشهير ديستوفيسكي في تعليقه على رواية «المعطف» وهي أهم ما كتب غوغول. هذه الرواية التي عبر فيها غوغول عن كل تناقضات العصر الذي عاش فيه، عبر قصة تحمل من الطرافة مقدار ما تحمل من الألم والمرارة، حين تعكس مصير الفرد العادي في المجتمع الذي عاش فيه غوغول، ثم يأتي في «الأنف» ليعكس حجم التلوث الذي لحق بالنفوس البشرية التي تعيش في تلك المجتمعات الفاسدة.

خيار موفق للمترجم لروايتين يبدو العصر الذي نعيشه مناسباً تماماً لاستعادتهما وعاكساً لكل ما ورد فيهما.

العدد 4088 - الجمعة 15 نوفمبر 2013م الموافق 11 محرم 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 4:41 ص

      المعطف

      القصة جداً جميلة ومليئة بالكثير من الحكم والمواقف التي تجعلنا نقف مع انفسنا وقفة شرف ونحاسبها هل نحن ممن قصدهم غوغول في كتاباته بالمهمشين ؟ ام نحن الفاسدين ؟

اقرأ ايضاً